(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).
وهذا الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف ، إنّما يبدأ بالحضّ والتأليف. ويستعرض صورة بهيجة من عمل كانت غايته رضى الله ـ سبحانه ـ آخذة في التصاعد إلى قمم الكمال.
إنّه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة : صورة الزرع! هبة الأرض أو هبة الله! الزرع الّذي يعطي أضعاف ما يأخذ ، ويهب غلّاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره. يعرض هذه الصورة الموحية مثلا للّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل ، في كلّ سنبلة مئة حبّة ، فذاك بسبعمائة ، لكنّه من هبة الأرض المحدودة ، والمثال قاصر عن إفادة مدى الأثر الّذي يخلفه الإنفاق في طاعة الله. ومن ثمّ عقّبه بقوله : (وَاللهُ واسِعٌ) سعة لا نهائيّة (عَلِيمٌ) بما بذره الباذر الباذل في سبيل رضاه.
فالله ـ تعالى ـ واسع لا يضيق عطاؤه ولا يكفّ ولا ينضب. عليم بالنوايا ، ويثيب عليها ، ولا تخفى عليه خافية.
***
ولكن أيّ إنفاق هذا الّذي ينمو ويربو؟ وأيّ عطاء هذا الّذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء؟
إنّه الإنفاق الّذي يرفع المشاعر الإنسانيّة ولا يشوبها ، الإنفاق الّذي لا يخدش شعورا ولا يحطّ كرامة ، الإنفاق الّذي ينبعث عن سماحة ونقاء ، ويتّجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
والمنّ عنصر كريه لئيم ، وشعور خسيس هابط. فالنفس البشريّة لا تمنّ بما سمحت إلّا إذا أعطت رغبة في الاستعلاء الكاذب ، أو رغبة في إذلال الآخذ ، أو رغبة في إلفات أنظار الناس. فالتوجّه إذن للناس لا لله بالعطاء. الأمر الّذي لا تجيش في قلب طيّب ، ولا يخطر كذلك في قلب مؤمن نزيه.
وقد ثبت عند علماء النفس بأنّ المنّ في الإحسان قد يسبّب ردّ فعل طبيعي في النفس