رأى إبراهيم هذا السرّ يقع بين يديه طيور فارقتها الحياة وتفرّقت أشلاؤها في أماكن متباعدة ، فتدبّ فيها الحياة مرّة أخرى ، وتعود إليه سعيا! (١)
***
وخالفهم أبو مسلم المفسّر الشهير ، فقال : ليس في الكلام ما يدلّ على أنّه فعل ذلك ، وما كلّ أمر ، يقصد به الامتثال ؛ فإنّ من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر ، لا سيّما إذا أريد زيادة البيان ، كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر؟ ـ مثلا ـ فتقول : خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا ، يكن حبرا! تريد أن تعلّمه كيفيّة صنعه ، ولا تريد تكليفه صنع الحبر بالفعل.
قال : وفي القرآن كثير من الأمر الّذي يراد به الخبر ، والكلام ها هنا مثل لإحياء الموتى (٢). ومعناه : خذ أربعة من الطير ، فضمّها إليك وآنسها بك حتّى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك ، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوان استعدادا لذلك. ثمّ اجعل كلّ واحد منها على مرتفع حولك ، ثمّ ادعهنّ ، فإنّهنّ يسرعن إليك ، لا يمنعها تفرّق أمكنتها وبعدها منك. كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى وحشرها يوم المعاد ، فإنّه يكفي أن يدعوهم للحضور لديه ، دعوة تكوين : «كونوا أحياء» ، فيكونون أحياء ويسرعون إليه حضورا لديه. كما كان شأن الخلق في بدء الأمر. إذ قال للسماوات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(٣).
قال محمّد عبده : هذا ما نجلّي به تفسير أبي مسلم ، وقد أورده الرازي مختصرا ؛ قال :
والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر ـ يعني أبا مسلم ـ أن يكون المراد قطع أعضائها ولحومها وريشها ودماءها ، وخلط بعضها مع بعض ـ كما يراه المفسّرون ـ وقال : إنّ إبراهيم عليهالسلام لمّا طلب أن يريه كيف يحيي الموتى؟ أراه الله تعالى مثالا قرّب به الأمر عليه. والمراد من قوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) الإمالة والتمرين على الإجابة بسبب الأنس به. أي عوّد الطيور على الإجابة ، بحيث إذا دعوتها لم تلبث أن أجابتك وأتتك بسرعة ، فإذا
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٤٢.
(٢) سيأتي عن ابن عبّاس قوله : إنّما هو مثل ، وكذا عن تلميذه مجاهد.
(٣) فصّلت ٤١ : ١١.