فقوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) معناه : لينبت ويتحقّق علمي وينتقل من العلم النظري البرهاني ، إلى العلم الضروريّ الوجداني ، وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة وبداهة الوجدان ، بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافا لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشّبه عن العقل ، وعنده يطمئنّ القلب ويسكن البال عن أيّ احتمال.
وقال أهل العرفان والتصوّف : المراد من الموتى ـ هنا ـ القلوب المحجوبة عن أنوار التجلّي والمكاشفات. والإحياء عبارة عن إشراقات وأنوار ملكوتيّة تفاض على القلوب الواعية المستعدّة.
فقول إبراهيم : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) طلب لذلك التجلّي والمكاشفات الإشراقيّة ، فيحصل بها الاطمئنان وسكون البال.
وقد قال أهل الاستدلال : العلم الاستدلالي ممّا تتطرّق إليه الشبهات ، فطلب علما ضروريّا يستقرّ معه القلب استقرارا لا يخالجه شيء من الشكوك والأوهام (١).
***
ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلّع في قلب إبراهيم ، ومنحه التجربة الذاتيّة المباشرة :
(قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). أمّا وكيف وقعت هذه التجربة ، وكيف تحقّقت هذه الاستجابة؟ فقد اختلفت الأنظار فيه :
قال المشهور : لقد أمره الله أن يختار أربعة من الطير ، فيقرّبهنّ منه ويميلهنّ إليه ، بحيث تأنس به ، وحتّى يتأكّد هو من شياتهنّ (٢) ومميّزاتهنّ الّتي لا يخطئ معها معرفتهنّ. وأن يذبحهنّ ويمزّق أشلائهنّ ويفرّق أجزائهنّ على الجبال المحيطة به ، ثمّ يدعوهنّ ، فتتجمّع أجزاؤهنّ مرّة أخرى ، وترتدّ إليهنّ الحياة ، ويعدن إليه ساعيات.
وهكذا فعل إبراهيم وتحقّقت التجربة بمشهد منه ومرآه ، ورأى السرّ الإلهي يقع بين يديه. وهو السرّ الّذي يقع في كلّ لحظة ، ولا يرى الناس إلّا آثاره بعد تمامه ؛ إنّه سرّ هبة الحياة ، الحياة الّتي جاءت أوّل مرّة بعد أن لم تكن ، والّتي تنشأ مرّات لا حصر لها في كلّ حيّ جديد.
__________________
(١) التفسير الكبير ٧ : ٣٩.
(٢) الشية : كلّ لون يخالف معظم لون الشيء.