الأكيد عليه كتابا وسنّة ، بل هو إن لم يكن من الضروريّات ، فلا ريب في كونه من القطعيّات ...» (١).
***
غير أنّ الآية لا عموم فيها ، واللّام ـ في المشركين ـ عهديّة ، إشارة إلى المعهودين من مشركي العرب آنذاك ممّن نقضوا العهود وتعرّضوا للمسلمين غير مرّة. قال تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قال الزجّاج : معناه : قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء لهم بها ، إذ نكثوا (٢).
ومن ثمّ قال تعالى ـ تعقيبا على ذلك ـ : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ...) أي رجعتم إلى الوفاء بالعهد وعدم التعرّض لأذى المسلمين ، وذلك بدليل قوله تعالى ـ بعد ذلك ـ : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
ثمّ قال ـ أخيرا ـ : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الّتي يحرم فيها القتال (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي أولئك الّذين نكثوا ونبذوا عهودهم (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي أسلموا ورضخوا لأحكام الإسلام ، إذ لا عهد لهم بعد ذلك النقض العارم (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣). والإسلام يجبّ ما قبله.
انظر إلى قوله تعالى ـ بعد ذلك ـ : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) كي يفتنوا المؤمنين (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي دعاته العتاة الطغاة (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) لا يفون لأيّ عهد أو ميثاق ، بغيا وعتوّا (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) خوفا وخشية من شكوة أهل الإيمان.
ثمّ يقول : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) إشارة إلى وقعة الأحزاب تحالف مشركو العرب وتحالف معهم اليهود ، وهمّوا باستئصال الإسلام نهائيّا. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٤) أي كان التحرّش من جانبهم هم ، فكان يجب مقابلتهم والدفاع عن كيان الإسلام.
وبعد فالمتحصّل من هذه الآيات ـ وهي عمدة مستند القول بجواز المبادرة إلى قتال سائر الكفّار ، هو وجوب مقابلتهم والضرب على أيديهم المعتدية. ولا مساس لها بالموادعين ممّن لا
__________________
(١) جواهر الكلام ٢١ : ٤٧ ، كتاب الجهاد.
(٢) مجمع البيان ٥ : ٧.
(٣) التوبة ٩ : ١ ـ ٥.
(٤) التوبة ٩ : ١٢ ـ ١٣.