أن يكوّن الكون ويوجّه الجهات!
وبعد فنسبة ذاته المقدّسة إلى الأكوان والجهات نسبة الترفّع والتعالي عنها ؛ لأنّها محدثات ، ولا تناسب بين الحادث الممكن بالذات ، والأزليّ الواجب بالذات. إنّه تعالى فوق كلّ شيء ومتعال عنها ، لأنّه أوجدها وأحدثها ، والمخلوق تحت رتبة الخالق والصانع فوق المصنوع ، تحتيّة لا بالجهة ، وفوقيّة لا بالجهة ، بل بالاعتبار والسببيّة المنتزعة ممّا بينهما من نسبة قائمة.
وهذا إذا ما لاحظنا من تباين ما بين عالم المادّة وعالم ما وراء المادّة. وبما أنّنا عائشون في وسط من العالم المادّي ، فإذا ما أردنا الإشارة إلى العالم الآخر غير المادّي ، أشرنا ـ طبعا ـ إلى خارج عالمنا هذا ، وهذه الإشارة تقع إلى جهة «فوق» ، لا بما أنّه «فوق» بل باعتبار أنّ كلّ خارج عن هذا العالم المادّي ـ في المحسوس ـ فوق من كلّ الجهات ، حيث الواقف في مركز فضاء كرويّ الشكل ، إذا أراد الإشارة إلى خارجها ، لا بدّ أن يشير إلى خارج سطح الكرة ، الّذي هو فوق بالنسبة إليه من كلّ الجهات.
وهكذا بالنسبة إلينا ونحن عائشون على الأرض ، إذا أردنا الإشارة إلى خارج عالمنا هذا ، إشارة بالحسّ ، لا بدّ أن تقع إشارتنا إلى خارج هذا المحيط ، وهو فوق في جميع أكناف الأرض.
وعليه فإذا ما اعتبرنا أنّ تدابير هذا العالم المادّي في جميع أرجائه ، تنحدر من عالم وراء المادّة من عند ربّنا العزيز الحكيم ، صحّ إطلاق الفوق عليه تعالى ، وهكذا التعبير بالنزول من عنده والصعود إليه وما أشبه ، لا يراد التحديد والجهة المادّيّة ، بل الاعتباريّة ، بالنظر إلى ما بين العالمين من تباين وفرق ، ذاك في ذروة العلى والشرف والغنى ، وهذا في خسّة الحضيض والذلّ والافتقار.
قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(١) ، أي ننزّله إلى عالم المادّة تنزيلا بمجرّد الاعتبار. حتّى إذا ما نبت نبت أو نما زرع أو استخرج معدن من تحت الأرض ، أو اصطيد سمك من جوف البحر ، كان ذلك من بركات صاحب العرش العلى ، أسبغه علينا أهل الأرض (٢).
__________________
(١) الحجر ١٥ : ٢١.
(٢) رسالة ابن شيخ الحزاميّين : ٣٩ ـ ٥٥. نشرت ضمن مجموعة «أربح البضاعة» بمكّة المكرّمة : ١٣٩٣ ه.