إذن فرفع الرأس واليدين إلى السماء حالة الضراعة إلى الله والابتهال إليه ، إنّما هو لهذا الإحساس الباطني : أنّ البركات تنزل من عالم أرفع ، هو محيط بنا وفوق من كلّ جهات الأرض.
الإنسان بفطرته يدرك بأنّ تدابير شؤون هذه الحياة المادّيّة ، إنّما تتّخذ في عالم آخر وراء عالمنا المادّي ، حيث يشاهد أنّ ما أحاط به من مظاهر الحياة ، إنّما هي جميعا أمثاله ، ذوات حاجة وافتقار إلى مدبّر شؤونها ، ومن يقوم بسداد خللها ، فلابدّ أنّ وراء هذا المظهر ذي النقص والعجز ، من جهاز مقتدر غنيّ ، هو الّذي يكفل تدابير عالمنا المادّي ، وليس سوى كونه خارج هذا الإطار المفتقر بالذات.
وإذا كان الإنسان يرى من ذاك العالم اللّامادّي وراء هذا العالم ، فإنّه يراه محيطا به من كلّ الجوانب ، إحاطة المدبّر ـ بالكسر ـ بالمدبّر ـ بالفتح ، وأعلا منه ، علوّ الكمال على النقص ، ومتبائنا منه ، تبائن القدرة عن العجز.
وبعد ، فإذا كان الإنسان يرى ما بين العالمين هذا التباعد ، وكان يرى من عالم الشهود مدّ بصره في جميع جوانبه ، يا ترى ، فأين يقع عالم الغيب؟! لا بدّ أنّه محيط بهذا العالم ، وإذا كان محيطا به فهو فوقه وأعلا منه ، لأنّ كلّ محيط بجسم كرويّ هو فوقه من جميع جوانبه لا محالة. هكذا يتصوّره تجسيم الخيال. إذن فعالم الغيب المدبّر لعالم الشهود هو فوقه وفوق ما نعيش فيه من المادّيّات السّفلى ، قياسا لغير المحسوس بالمحسوس في كلّ ما يتصوّره الإنسان من شؤون ما وراء محسوسه ، إذا ما قاسه بما لديه من محسوسات.
قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(١). تنزيلا من عالم الغيب إلى عالم الشهود ، الأمر الّذي دعا بالمؤمنين وغير المؤمنين من سائر الموحّدين ، بل ومن كلّ من يعتقد بما وراء الحسّ ، أنّ الرحمة والبركات تنزل من عند الله العليّ القدير ، من عالم هو أسمى وأسنى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(٢) وهكذا أجاب الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام في جواب عبد الله بن سبأ حينما سأله عن سبب رفع اليدين إلى السماء عند الدعاء :
__________________
(١) الحجر ١٥ : ٢١.
(٢) الذاريات ٥١ : ٢٢.