لا شكّ أنّ الميل إلى الخير ممّا أودع في طبع الإنسان ، وأنّه يفعل الخير بطبعه وتكون له فيه لذّة وارتياح نفس ، ولا يحسّ الإنسان إلى تكلّف في فعل الخير ، لأنّه يشعر بأنّ كلّ أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضا.
وأمّا الشرّ فإنّه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا هي مقتضى فطرتها ، ومهما كان الإنسان شرّيرا فإنّه لا يخفى عليه أنّ الشرّ ممقوت وصاحبه مهين.
خذ لذلك مثلا الطفل ، ينشأ على الصدق والأمانة ، ما لم يرى الكبار يتعاطون الكذب والخيانة ، فيتعاطاهما بالتقليد والتأسّي ، ومع ذلك لا ينفكّ يشعر بقبحهما ، حتّى إذا نبذ أحد أمامه بلقب الكاذب والخائن ، أحسّ بمهانة وخزي في الموصوف بهما.
وهكذا شأن الإنسان عند ما يقترف قبيحا ، يشعر في نفسه بقبحه ويجد من أعماق سريرته هاتفا يوبّخه ويحذّره مغبّة عمله ذلك القبيح.
نعم حيث كان الإنسان ينشأ بين منازعات الكون وفواعل الطبيعة وأحيائها ومغالبة أبناء جنسه على المنافع والمرافق ، وقد يدفعه هذا التنازع إلى الأثرة وتوفير المنافع لنفسه خاصّة ، ويلجؤه الظلم إلى الظلم ومقابلة التعدّي بالتعدّي ، فيأتيه تعاطي الشرّ متعلّما إيّاه تعلّما متكلّفا له تكلّفا ، وفي نفسه ذلك الهاتف الفطري ، يقول له : لا تفعل. وهذا هو النبراس الإلهي الّذي لا ينطفئ أبدا.
فإذا رجع الإنسان إلى أصل فطرته لا يرى إلّا الخير ، ولا يميل إلّا إليه. وإذا تأمّل الشرّ الّذي قد يعترض طريقه ، لم يخف عليه أنّه ليس من أصل الفطرة ، وإنّما هو من الطوارئ الّتي تعرض عليها ، لا سيّما من ينشأ بين قوم فسدت فطرتهم ، فيتطبّع تطبّعا على الفساد ، وعلى خلاف ذاته وفطرته ، ومع ذلك فإنّ الفطرة لا تنطفئ رأسا ، وهي الحجّة القائمة مع كلّ نفس وتكون زاجرة ورادعة أبدا ، مهما بلغ في الفساد.
ومنه يعلم وجه قوله تعالى ـ في الخير ـ : كسبت. وفي الشرّ : اكتسبت. وذلك أنّ عمل الخير ـ حيث كان متلائما مع الفطرة ـ كان سهلا وكانت عاقبته حميدة. وعمل الشرّ عسرا ومغبّته ذميمة.