وهكذا حجاج إبراهيم مع الّذي آتاه الله الملك ، فيما سبق. وسائر حججه الّتي أتمّها الله عليه وكانت رمز فخار لإبراهيم (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ)(١) ممّا لا يخصّ فهمها إبراهيم ، وإنّما هي هدايته تعالى لإبراهيم في الإحجاج بها للناس ، لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
فالجميع مشتركون في فهمها ، وكانت مواقف إبراهيم منها موقف معلّم مرشد خبير ومؤيّد بنصر الله.
وعليه فمثال الطيور هنا ، مثل لكلّ من رام معرفة موضع قدرته تعالى في الخلق والتكوين. وليس لغاية العلم بسرّ الحياة أو معرفة كنه الوجود!!
قال : وجملة القول : أنّ تفسير أبي مسلم للآية هو المتبادر الّذي يدلّ عليه نظم الآية ، وهو الّذي يجلّي الحقيقة في المسألة ، فإنّ كيفيّة الإحياء هي عين كيفيّة التكوين في الابتداء ، وإنّما تكون بتعلّق إرادته تعالى بالشيء ، المعبّر عن ذلك بكلمة التكوين (كن). فلا يمكن أن يصل البشر إلى كيفيّة له ، إلّا إذا أمكن الوقوف على كنه إرادته تعالى وكيفيّة تعلّقها بالأشياء ، الأمر الّذي ليس بوسع البشر.
وإنّما للإنسان أن يدرك صفاته تعالى وكيفيّة فعاله في الخلق والتدبير ، بالتدبّر في مظاهر الكون وفي ظاهرة التحوّل والتحويل في الخلق والإيجاد. أمّا كنه صفاته وحقيقة فعاله ، فلا.
قال : هذا ما أفاده قول أبي مسلم رحمهالله.
قال : وممّا يؤيّده في النظم المحكم ، قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ ؛) فإنّه يدلّ التراخي الّذي يقتضيه إمالة الطيور وتأنيسها ، بناء على أنّ لفظ «صرهنّ» يدلّ على التأنيس. ولو لا أنّ هذا هو المراد ، لقال : فخذ أربعة من الطير فقطّعهنّ واجعل على كلّ جبل منهنّ جزء ، ولم يذكر لفظ الإمالة إليه ويعطف «جعلها على الجبال» بثمّ!
ويدلّ عليه أيضا ختم الآية باسم العزيز الحكيم ، دون اسم القدير. والعزيز هو الغالب الّذي لا ينال.
__________________
(١) الأنعام ٦ : ٨٣.