جميل : كلّما ازدادوا علما ، ازدادوا يقينا بكبريائه تعالى. وذلك أنّهم لمسوا عظمة هذا الكون ووقفوا على عظمة بارئه ، وعند ما رأوا ضئالة ما لديهم من معلومات ، ازدادوا صغارا في أنفسهم وخشوعا لدى الصانع الحكيم ، وهذا ما نطق به القرآن الكريم : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(١).
قال الحكيم الفيلسوف راشد الخراساني (٢) : «لقد كان منتهى ما يبلغه العلماء في محاولاتهم وجهودهم المتواصلة ، هو اعترافهم بأنّهم لا يعلمون شيئا من هذا الوجود. نعم لا يعلمون شيئا تجاه ما لمسوه من عظمة هذا الكون الفسيح. إنّهم علموا أشياء ووقفوا على أسرار ، ولكنّهم كلّما جدّوا في الأمر وجدوا المجال أوسع وأفسح ، وهناك أسرار كبرى خابئة في هذا الوجود أعمق وأدقّ. فإذا ما قاسوا معلوماتهم هم بالذات ، إلى ما جهلوه من كوامن وأسرار عظام ، تصاغروا واستصغروا ما لديهم من معلومات حتّى ولم يعدّوه شيئا بالقياس إلى عظمة هذا الكون ، الأمر الّذي لا يزال بالعلماء يزدادون خشوعا وخضوعا لدى الصانع المتعالي الحكيم : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ ...)(٣)».
***
قوله : (إِلَّا بِما شاءَ) أن ييسّر للإنسان العلم به من القوى والطاقات ، والقوانين الكونيّة الّتي تلزم له في خلافته في الأرض وعمارتها لإمكان الحياة عليها (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها)(٤).
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب ـ الخطير بالنسبة إليه ، والضئيل بالنسبة ما زوي عنه علمه من أسرار الملك والملكوت ـ منحه القدرة والإمكانيّات اللّازمة للقيام بهذه المهمّة الخطيرة ، الّتي كلّفه الله تعالى في صميم شاكلته ، وهو خليفة الله في الأرض.
هذا ومع ذلك نرى الإنسان في سابق حياته قد يفتتن بهذا الطرف من العلم ، الّذي أحاط به بعد الإذن ، يفتتن فيحسب نفسه في الأرض جبّارا ، ويكفر وينكر أنّ لهذا الكون بارئا ومدبّرا من فوق الأرض! وإن يكن في هذا الدور الأخير (القرنين ٢٠ و ٢١) بدأ الوعي الفطريّ ـ الإنساني يتيقّظ شيئا فشيئا ، وبدأ يردّ العلماء حقّا إلى التواضع والتطامن ، فقد بدأوا يعلمون أنّهم لم يؤتوا من العلم إلّا قليلا! وبقي الجهّال المتعاملون الّذين يحسبون أنّهم قد علموا شيئا كثيرا! (٥).
__________________
(١) فاطر ٣٥ : ٢٨.
(٢) راجع : مقدّمة كتابه «دو فيلسوف شرق وغرب».
(٣) آل عمران ٣ : ١٩١.
(٤) هود ١١ : ٦١.
(٥) راجع : في ظلال القرآن ١ : ٤٢٣.