أمّا القسر والإجبار ، فهو ينافي الاختيار في التكليف. ولم ينتج بروز الاستعدادات الكامنة في بني الإنسان. وقد خلق ليكون خليفة الله في الأرض ، في إبداعاته وإبراز استعداداته.
إذن فهذا الاختلاف من بعد الرسل ، ناجم عن هوى متّبع ورأي مبتدع ، وزيغ في القلوب.
(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) فكان من المفلحين. (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) وإن كان قد أظهر الإيمان بلسانه ، ولكنّه أبطن الكفر والنفاق ، فكان من الخائبين.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ) بمشيئته القسريّة القاهرة (مَا اقْتَتَلُوا) وما اختلفوا ، لكن لا عن اختيارهم ، وهم مجبورون عليه.
(وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) : يفعل وفق حكمته في الخلق والتدبير ، ومن ثمّ جعل من بني الإنسان مختارين في السلوك ، إن هدى أو ضلال ، من غير إكراه أو إجبار ، الأمر الّذي تقتضيه حكمة الاختيار في التكليف.
***
[٢ / ٧٤٠٣] قال الطبرسي في الآية : معناه : ولو شاء الله لم يقتتل الّذين من بعد الأنبياء ، بأن يلجئهم إلى الإيمان ، ويمنعهم عن الكفر ، إلّا أنّه لم يلجئهم إلى ذلك ، لأنّ التكليف لا يحسن مع الضرورة والإلجاء ، والجزاء لا يحسن إلّا مع التخلية والاختيار ، عن الحسن (١).
[٢ / ٧٤٠٤] وروى العيّاشي بالإسناد إلى الأصبغ بن نباتة قال : كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليهالسلام يوم الجمل فجاء رجل حتّى وقف بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين كبّر القوم وكبّرنا وهلّل القوم وهلّلنا وصلّى القوم وصلّينا ، فعلى ما نقاتلهم؟! فقال : «على هذه الآية : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فنحن الّذين آمنّا وهم الّذين كفروا» فقال الرجل : كفر القوم وربّ الكعبة ، ثمّ حمل فقاتل حتّى قتل رحمهالله (٢).
__________________
(١) مجمع البيان ٢ : ١٥٤ ؛ التبيان ٢ : ٣٠٤ ، بلفظ : وقوله : وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا إخبار عن قدرته على إلجائهم على الامتناع من الاقتتال ، أو بأن يمنعهم من ذلك. هذا قول الحسن وغيره.
(٢) نور الثقلين ١ : ٢٥٤ ؛ العيّاشي ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦ / ٤٤٩ ؛ البحار ٢٩ : ٤٥١ / ٤٠ ، و ٣٢ : ٢٠٢ / ١٥٥ ؛ البرهان ١ : ٥٢٨ / ٤ ؛ الصافي ١ : ٤٤٠ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٣٩٤ ؛ الاحتجاج ١ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.