أحسّوا به ، فمرّوا بمدينة خربة باد أهلها على أثر الوباء ، فنزلوا بها وحطّوا رحالهم فلمّا اطمأنّوا بها جاءتهم البليّة من حيث لم يحتسبوا فأماتتهم جميعا ، فصاروا عظاما وهبّت عليهم الريّاح (١).
قلت : ولعلّه كان على ممرّ العرب في رحلتهم الصيفيّة ، فكانوا قد وقفوا على مرّ الحادثة!
وعلى أيّة حال ، ليس بالمهمّ أن نعرف شخصيّة القوم الّذين هربوا من الموت. إنّما العمدة أنّها عبرة وعظة ينبغي التوجّه إلى مغزاها ، إنّما يراد هنا تصحيح التصوّر عن الموت والحياة وأسبابهما الظاهرة وحقيقتها المضمرة ، وردّ الأمر فيهما إلى القدرة المدبّرة ، والاطمئنان إلى قدر الله في الحياة ، فالمقدّر كائن ، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف ، نعم إنّ للإنسان سعيه في المضيّ على تعهّداته في الحياة والتكاليف والواجبات المفروضة عليه ، من دون هلع ولا جزع ، والأمر إلى الله.
إنّ الفزع والهلع ، من غير رويّة ولا دراية ، لا يزيدان حياة ولا يردّان قضاء (٢) ، وإنّ الله هو واهب الحياة ، وهو آخذ الحياة ، وإنّه متفضّل في الحالتين : حين يهب وحين يستردّ ، والحكمة الإلهيّة الكبرى كامنة خلف الهبة والاسترداد ، وإنّ مصالح الناس متحقّقة في هذا وذاك ، وإنّ فضل الله عليهم متواجدة في الأخذ والمنح سواء :
(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).
إذن فلا موقع للتخلّي عن فريضة الجهاد في سبيل الله ، الّذي فيه حياة الأمّة وحياة الشريعة والدّين. (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما في قلوبكم.
***
هذا والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية ، ولا سيّما في تلك الفترة ، حيث كان الجهاد تطوّعا ، والمجاهد ينفق على نفسه ، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد ، فلم يكن بدّ من الحثّ المستمرّ على الإنفاق ـ من قبل أهل الثراء ـ لتيسير الطريق للمجاهدين. وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق ـ وأنّه إيداع المال حيث ينمو ولا يذهب ضياعا ـ دعوة موحية دافعة :
__________________
(١) الكافي ٨ : ١٩٨ ـ ١٩٩ / ٢٣٧. وسيأتي تفصيل الحديث.
(٢) قال أبو الطيّب :
يرى الجبناء أنّ الجبن حزم |
|
وتلك خديعة الطبع اللئيم |