أحسن فيما بينك وبين الله ، وصل ما أمرك الله به أن تصل ، وأبشر بخير ، فانصرف عنه الملك ، فمكث أيّاما ثمّ أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الّذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت؟ قال : أنا الرجل الّذي أتيتك في شأن أهلي ، فقال له نبيّ الله : أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد ، ولم تر منهم الّذي تحبّ؟ فقال : يا نبيّ الله ، والّذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلّا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك ، فقال النبيّ عليهالسلام : ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم ، أسأل الله الّذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنّبكم سخطه. فقام الملك من عنده ، فلبث أيّاما ، وقد نزل بخت نصّر بجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد ، ففزع بنو إسرائيل فزعا شديدا ، وشقّ ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا إرميا ، فقال : يا نبيّ الله ، أين ما وعدك الله؟ قال : إنّي بربّي واثق! ثمّ إنّ الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربّه الّذي وعده ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت؟ قال : أنا الّذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرّتين. فقال له النبيّ عليهالسلام : أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الّذي هم فيه؟ فقال الملك : يا نبيّ الله ، كلّ شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أنّما قصدهم في ذلك سخطي! فلمّا أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضى الله ولا يحبّه الله! فقال النبيّ عليهالسلام : على أيّ عمل رأيتهم؟ قال : يا نبيّ الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله ، ولو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي ، وصبرت لهم ورجوتهم ، ولكن غضبت اليوم لله ولك ، فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإنّي أسألك بالله الّذي بعثك بالحقّ إلّا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. فقال إرميا : يا مالك السماوات والأرض ، إن كانوا على حقّ وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه ، فأهلكهم. فلمّا خرجت الكلمة من فيّ إرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها ، فلمّا رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : يا ملك السماء ، ويا أرحم الراحمين ، أين ميعادك الّذي وعدتني؟ فنودي إرميا : إنّه لم يصبهم الّذي أصابهم إلّا بفتياك الّتي أفتيت بها رسولنا. فاستيقن النبيّ عليهالسلام أنّها فتياه الّتي أفتى بها ثلاث مرّات ، وأنّه رسول ربّه ، فطار إرميا حتّى خالط الوحوش.