والّذي يظهر لي بعد إمعان النظر والتأمّل الثاقب ـ والله يعلم بالصواب ـ أن ليس المراد بالألفاظ المتّفق على كون العامّ حقيقة فيها مطلقها على معنى جميع ألفاظ العالم (١) ، ولا بالمعاني المقابلة لها المختلف في إطلاق العامّ عليها مطلقها أعني جميع معاني العالم (٢) ، بل المراد بالألفاظ إنّما هي الألفاظ المخصوصة المدّعى كونها موضوعة للعموم ، بدليل أنّهم إنّما تعرّضوا لتلك المسألة عقيب الفراغ عن تعريفات العامّ وبيان معناه المصطلح عليه عندهم ، وقبل التعرّض لعنوان المسألة الآتية المعبّر عنها : بأنّه هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟ فلا معنى لكون نظرهم فيما عدا هذه الألفاظ المخصوصة ، مضافا إلى تمسّك المانعين من عروض العامّ للمعاني بالتبادر بمعنى سبق اللفظ إلى الذهن الّذي لا يثبت به إلاّ دخول اللفظ في وضعه في عرفهم لا مطلقا ، وهذا أيضا آية كون نظرهم مقصورا على الألفاظ المخصوصة الّتي اصطلحوا العامّ فيها ، فيكون المراد بالمعاني أيضا معاني هذه الألفاظ لا غير ، وهي مداليلها الّتي يعبّر عنها بالأجزاء أو الجزئيّات الّتي اعتبروا عموم الألفاظ وشمولها بالقياس إليها.
فيكون حاصل معنى العنوان : أنّ العموم الّذي يعرض هذه الألفاظ المخصوصة على وجه الحقيقة هل يعرض معانيها ، على معنى مداليلها من الأجزاء أو الجزئيّات بل الجزئيّات خاصّة أو لا؟
وعلى الأوّل فهل هو على وجه الحقيقة أو المجاز؟ وعلى الأوّل فهل هو باعتبار الاشتراك المعنوي أو الاشتراك اللفظي ومرجع هذا النزاع إلى ما قد يوجد في بعض الكتب الاصوليّة في تضاعيف الكلام في الجمع المحلّى باللام وما بمعناه من الجمع المضاف وإسم الجمع المعرّف باللام أو بالإضافة من التكلّم في أنّ عمومه هل هو أفرادي أو جمعي؟ على معنى أنّ « العلماء » مثلا في نحو : « أكرم العلماء » يفيد شمول الحكم لكلّ فرد أو يفيد شموله لكلّ جماعة؟ مع تصريحهم على الثاني بأنّ ثبوت الحكم لكلّ جماعة يستدعي ثبوته لكلّ واحد من آحاد الجماعة.
وعلى هذا التقدير فالجمع عامّ في الجماعات والجماعة أيضا عامّ في آحادها ، وقضيّة ذلك تحقّق عامّين في الجمع المعرّف وما بمعناه ، ومنه « أكرم القوم » و « أكرم كلّ العلماء » أحدهما لا حق باللفظ على وجه الحقيقة والآخر بمعناه ومدلوله على وجه المجاز أو الحقيقة أيضا باعتبار الاشتراك بينهما معنى أو لفظا.
فحاصل معنى العنوان حينئذ : أنّ هذه الألفاظ المخصوصة المفيدة لاستغراق الحكم
__________________
(١ و ٢) كذا في الأصل.