ومنها : ما حكاه عنه أيضا من استقراء الشرعيّات في أبواب العبادات والمعاملات في قوله : « فإنّ المدار فيها من الطهارات إلى الديات على تعدّد المسبّبات إذا تعدّدت أسبابها عدا النزر القليل المستند إلى ما جاء فيه من الدليل على اختلاف في أكثره وشكّ في أغلبه ، وإنّك متى تجاوزت ذلك وارتقيت في الأسباب وجدتها على ما وصفناه من غير شكّ ولا ارتياب ، ولذا ترى أنّ أسباب الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والأيمان والنذور والديات والحدود وغيرها على كثرتها كثيرا مّا يجتمع مع توافق مسبّباتها في الجنس والكيفيّة والوقت وهي مع هذه متعدّدة متغائرة ، كالصلاة المتوافقة من فائتة وحاضرة ، والفوائت المتعدّدة من الفرائض والنوافل الراتبة وغير الراتبة الموافقة وغيرها ، وكصلاة الفجر مع الطواف ، والزلزلة مع الكسوف ، والعيد مع الاستسقاء ، وكذا أنواع الصيام من القضاء والكفّارة وأفرادهما المتكثّرة ، وأقسام الزكاة مثل زكاة المال والفطرة وأفرادهما الكثيرة ، والديون المستقرّة في الذمّة بأسباب مختلفة كالبيع والصلح والإجارة وغير ذلك من صور اجتماع الأسباب مع توافق المسبّبات ممّا لا يمكن حصره ، فإنّ البناء في جميعها على التعدّد بحيث لا يحتمل فيها التداخل والاكتفاء بالواحد عن المتعدّد كصلاة واحدة عن ألف صلاة ، وصوم يوم عن ألف يوم ، أو دفع شيئ بدلا عن قنطار ، ولو أنّ أحدا حاول ذلك لكان مخالفا لقانون الشريعة خارجا عن الدين والملّة ، ولا ندّعي أنّ الأسباب كلّها بهذه المثابة فإنّها تختلف جلاء وخفاء ، ولكنّ الفحص والاستقراء وتتبّع الجزئيّات الّتي لا تحصى تكشف عن استناد الأمر في ذلك كلّه إلى شيء جامع مطّرد في الجميع وليس إلاّ أصل عدم التداخل ، وهذا من قبيل الاستدلال بالنصوص المتفرّقة الواردة في جزئيّات المسائل على ثبوت ما اجتمعت عليه من المطالب الكليّة وذلك ليس من الظنّ والقياس في شيء » (١).
وفيه : منع الغلبة أوّلا ، لخروج أكثر ما ذكره من الأمثلة عن محلّ النزاع بضابطة ما قرّرناه سابقا من أنّ النزاع فيما اتّحدت المسبّبات نوعا دون ما اختلفت أنواعها ولو كان الاختلاف ناشئا عن اختلاف الأحكام واللوازم وخروج كثير من الباقي بالدليل ، فلا يبقى لما يكون من محلّ الخلاف إلاّ نزر قليل لا يثبت به الغلبة ، ومنع اعتبارها على فرض التسليم ثانيا ، فإنّ الاعتماد عليها في أمثال المقام في غاية الإشكال لابتناء اعتباره على ثبوت الظنّ المطلق في الأحكام.
__________________
(١) عوائد الأيّام : ١٠٥ ـ ١٠٦.