تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » لا يحكم بنفي وجوب إكرام عمرو إذا جاء حال عدم مجيء زيد ، مع أنّ قضيّة الشمول ثابتة هنا أيضا ، والّذي يشهد بذلك عدم فهم المعارضة بين هذا المفهوم وما لو قال بعد القول الأوّل : « إن جاءك عمرو فأكرمه » أصلا ومن هنا لو قال : « إذا قصدك عدوّك بسيفه فادفعه » لا يقال : إنّه يفهم منه عدم وجوب دفع المحبّ لو قصد بسيفه ، بل التحقيق أنّ اعتبار هذا المعنى في المفهوم يرجع بالأخرة إلى اعتبار مفهوم اللقب ، وهو خلاف التحقيق بل مناف لما استقرّ عليه المذهب.

نعم ربّما يرد على الجمود على حكم عدم مجيء الفاسق أنّه يؤدّي إلى إخراج السالبة في جانب المفهوم إلى كون سلبها باعتبار انتفاء الموضوع وهو خلاف ظاهر القضيّة حيثما اطلقت.

ولكن يدفعه : أنّ ذلك على تقدير صحّته إنّما يسلّم في القضايا الملفوظة ، وهي في المقام من القضايا المعقولة الصرفة الّتي لا تتّصف بما هو من أوصاف الألفاظ لكونها من الامور اللبّية فلا يعقل فيها ظهور ولا خلافه ، مع أنّ إدخال ما ليس ممّا سيق الكلام لإفادة حكمه في المفهوم أشدّ مخالفة للظاهر من حمل السالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع ، ضرورة كون ذلك بالقياس إليه أظهر بمراتب شتّى فيكون متعيّنا ، والفرار عن مخالفة ظاهر لا يقضي بالتزام مخالفة ظاهر آخر إلاّ إذا كانت أهون منها في نظر العرف والمفروض خلافه ، بل هي عن أصلها بمعزل عن الاعتبار في بديهة المحاورات كما عرفت.

مع أنّ لنا أن نمنع ورود الآية الشريفة مورد افادة المفهوم ، لجواز كون المقصود الأصلي فيها التنبيه على فسق مورد نزولها ، أو إفادة الحكم في مورد الغالب نظرا إلى أنّ الغالب على الفاسق إنّما هو تطرّق الكذب إلى أخباره ، والغالب في حكمة إيجاب التبيّن إنّما هو استظهار كذب الخبر عن صدقه ، وهو لا ينافي وجوبه في خبر العادل لحكم اخرى ، فيدور الأمر بين ارتكاب هذا النحو من خلاف الظاهر وبين ما تقدّم فلا بدّ من الترجيح ، مع أنّ العلّة المنصوصة كثيرا مّا تجري في خبر العادل أيضا ، لأنّه وإن كان بعد التأمّل لا يتعمّد في الكذب إلاّ أنّه لا يأمن عن الخطأ والاشتباه والسهو والنسيان والتورية والتقيّة ، بل وتعمّد الكذب أيضا لمصلحة اخرى راجحة على مصلحة الصدق في الواقع أو في نظره ، بل كثيرا مّا يعوّل في إخباره على من أخبره وهو كاذب في نفس الأمر.

ولا ريب أنّ هذه الجهات إذا لو حظت في خبر العادل كان كخبر الفاسق في إفضاء العمل به من غير تبيّن إلى الندم.

١٠١

ومن البيّن أنّ علّة المنطوق إذا كانت مشتركة بينه وبين المفهوم كان اعتبار المفهوم معه قبيحا على المتكلّم منافيا لحكمته ، فلا بدّ من الالتزام بكون مثل هذا المفهوم ساقطا في نظره غير داخل في مراده صونا لحكمته.

هذا كلّه إذا أردنا الاستناد في إثبات حجّية خبر الواحد إلى آية النبأ وأمّا إذا أردنا الاستناد إلى آية النفر فعدم شمولها ـ على تقدير نهوضها دليلا ـ لمثل ما نحن فيه ممّا لا يحتاج إلى البيان ، لظهورها في تحصيل أصل الأحكام وعدم تناولها لأسبابها ولا غيرها من الموضوعات الخارجيّة كما لا يخفى على المتأمّل.

وممّا ذكر تبيّن حال الظنّ المطلق في عدم اعتباره بالنسبة إلى خصوص المقام ، لعدم انقلاب الأصل الأوّلي بالنسبة إلى الموضوعات إلاّ في مواضع معدودة ليس المقام منها كما لا يخفى ، ودليل اعتباره في الأحكام لا يتناول المقام جزما لانتفاء جملة من مقدماته ، كيف وأنّ العمدة من تلك المقدّمات إنّما هو بقاء التكاليف وثبوتها فلا بدّ وأن يكون التكليف محرزا ليتّخذ الظنّ طريقا إليه ، والمقصود في المقام إثبات كون الظنّ طريقا إلى تحقّق ما يقضي تحقّقه بإحراز التكليف ، فإحرازه هنا متأخّر رتبة عن إحراز طريقيّة الظنّ ، وهو على عكس موضوع دليل الحجّية ولا يعقل في مثله التناول.

وثانيها : إذا تعذّر حصول العلم بتحقّق السبب أو عدمه ـ ولو في نظر المكلّف كما في موضع عدم رجاء حصوله بأحد طرفي القضيّة ـ فلا شيء عليه ، بناء على ما سبق ، ومضافا إلى أصالة البراءة واستصحاب الحالة السابقة ، وإذا لم يتعذّر حصوله بأحد الطرفين ـ ولو في نظره كما في موضع رجائه ـ فهل يجب عليه الفحص والنظر إلى أن يحصل له العلم بأحدهما أو يئس عن حصوله أو لا؟

والظاهر أنّ فيه خلافا حيث إنّ بعض مشايخنا بعد ما أوجب الفحص في إعمال أصل البراءة ـ على وفق ما عليه الأصحاب ـ خصّه بالشبهات الحكميّة ، وأمّا الشبهات الموضوعيّة فنفاه فيها مدّعيا عليه الإجماع بقسميه.

ثمّ عزى إلى بعضهم أنّه قد يفتي مع الاتّفاق المذكور على وجوبه فيما لو كانت الشبهة الموضوعيّة وجوبيّة ، كما في استطاعة الحجّ ونصاب الزكاة ، حيث أوجب الفحص عنهما ، واستغربه مذيّلا له بعدم صيرورة وجهه معلوما إلى الآن.

ومن الأعلام من أوجبه في استطاعة الحجّ ، وظاهره عموم الحكم حيث نبّه عليه

١٠٢

بقوله : « وبالجملة تقدّم العلم بالوصف لا مدخليّة له في ثبوت الوصف والواجبات المشروطة بوجود شيء إنّما يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بقدر استطاعة الحجّ ، لعدم العلم بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

نعم لو شكّ بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا فالأصل عدم الوجوب حينئذ ، فمقتضى تعليق الحكم على المتّصف بوصف في نفس الأمر لزوم الفحص ، ثمّ العمل بمقتضاه ، فإذا قيل : « أعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة درهما » يقتضي إرادة السؤال عمّن جمع الوصفين لا الاكتفاء بمن علم اجتماعهما فيه » انتهى كلامه رفع مقامه (١).

ومن الأعاظم من حكى الخلاف فيه واستظهر عدم الوجوب مذيلا له بما يقضي بميله إلى الوجوب ، حيث نبّه عليه بقوله : « وأمّا لو لم يعلم به كما لو شكّ في الاستطاعة هل يجب عليه المحاسبة ، وكذا إذا كان له أحد النقدين ويكون مغشوشا وانقضى عليه سنة ولا يعلم أنّه بقدر النصاب فاختلفوا فيه ، والأظهر عدم الوجوب للأصل وكون الوجوب مشروطا بالاستطاعة وبلوغ النصاب ، إلاّ أن يقال : لمّا كان الناس صنفين فالمفهوم عرفا وجوب الفحص ، فإنّ المولى إذا أمر عبيده بأنّ من كان عنده ألف دينار فليأت منها بمائة ، ومن كان عنده مائة فليأت منها بعشرة ، فيفهم عرفا وجوب المحاسبة على كلّ حتّى يتبيّن المكلّف من غيره ، وهذا لمّا كان للشارع حكمان متعلّقان بعباده أحدهما : « أنّ المستطيع منهم يجب عليهما الحجّ » والآخر : « أنّ غير المستطيعين لا يجب عليهم » فيجب على المكلّفين أن يتفحّصوا عن أحوالهم حتى يظهر خطابهم.

وبالجملة تعليق الحكم بالامور الواقعيّة يقتضي لزوم الفحص أو الاحتياط فيما يمكن ، لو لم نقل بوجوب الجزم بالمنوي لو وقع الشكّ في حصول شرط الواجب أو سببه مع فوريّة الحكم ، ومنه السعي في رؤية الهلال من شهر رمضان أو الشوال ، والحجّة فيه فهم العرف ، فإنّ المولى إذا قال لعبيده : « من استطاع منكم للسفر فليسافر ، ومن دخل عليه الشهر فليأت بكذا » فيفهم منه عرفا لزوم الفحص لمن شكّ في حصول الاستطاعة أو دخول الشهر ، ولا يسمع منه الاعتذار في الترك بعدم العلم ، والسبب في الفهم تعليق الحكم

__________________

(١) قوانين الاصول : ٢٦٠.

١٠٣

بالشهر الواقعي والاستطاعة الواقعيّة ، بخلاف ما لو قال : « من علم بالشهر أو بالاستطاعة فليسافر وليأت بكذا » فلا يفهم منه لزوم الفحص والبحث ». انتهى (١).

ويمكن دعوى ابتناء القول بوجوب الاستهلال لصوم رمضان ـ وهو قول معروف ـ على القول بالوجوب هنا ، وكيف كان فالّذي يظهر والله أعلم وجوبه الّذي يمكن الاستناد فيه إلى وجوه

أوّلها : قضاء القوّة العاقلة بذلك ، فإنّه لا يأبى عن جواز معاقبة المكلّف التارك للفحص عن تحقّق سبب الوجوب مع تمكّنه عنه بتركه المصادف لتحقّقه في الواقع على ترك الواجب المشروط به ، تعويلا على مجرّد عدم العلم به.

فلو صلح مجرّد عدم العلم عذرا امتنع عنه تجويز ذلك ، لأنّه فرع تنجّز التكليف وهو ممتنع مع العذر ، فتنجّزه مع تحقّق شرطه في الواقع في نظره آية تجويزه لإيجاب الفحص مع الشكّ ، إدراكا للواقع من باب المقدّمة.

وثانيها : بناء العقلاء في خطاباتهم المعلّقة وفهمهم إيجاب الفحص منها حين المخاطبة.

ألا ترى أنّ الأمير لو أرسل إلى رعيّته طومارا متضمّنا لقوله : « يا أهل مملكتي من دخل منكم في ماله الربح ليحضر ساحتي إدراكا لطولي ومن خالفني بترك ذلك أدركه سخطي » وكان الأمير ممّن يقف على عواقب الامور وحقائق الأحوال ، فإنّهم حينئذ لا يزالون يذعنون على أنفسهم وجوب محاسبة أموالهم في موضع الشكّ في دخول الربح فيها ، بحيث لو تركها بعضهم مع التمكّن لأطبقوا على توبيخه ورميه بالعصيان ، ولا يكون اعتذاره بعدم العلم مقبولا عندهم ولا عند الأمير ، فلذا لو قضى عليه بالسياسة والتعذيب سكتوا عليه بلا نكير ، ولا رمي له بالخروج عن طريقة العدل ، بل يردّون عليه اعتذاره بما ذكر بكونه متمكّنا عن تحصيل العلم بالفحص.

وثالثها : ما يقضي بوجوب دفع احتمال الضرر مطلقا من القاعدة الّتي استفيدت من العقل وطريقة العقلاء ، ضرورة أنّ الواجب إذا كان مشروطا بما لا مدخليّة للعلم فيها من حيث الموضوعيّة وهو في موضع رجاء حصول العلم بتحقّق شرط وجوبه كان تركه محتملا للضرر ، ولا يندفع إلاّ بالفحص المورث لليأس أو حصول العلم بأحد الطرفين.

نعم لو كان العلم بحيث دلّ الدليل على أنّ له مدخلا في موضوع السببيّة ، بدعوى

__________________

(١) إشارات الاصول.

١٠٤

دلالته على اشتراط وجوبه بالعلم بالسبب لا بنفس السبب اتّجه عدم وجوب الفحص عمّا يفيده ، لوضوح عدم وجوب المقدّمة إذا كانت من شرائط الوجوب ، فلذا لا يجب تحصيل الاستطاعة مقدّمة ـ على ما قرّرناه في بحث المقدّمة ـ بخلاف العلم بها إذا كانت بنفسها شرطا ، فإنّه قد يجب تحصيله أو تحصيل اليأس عن حصوله في موضع الشكّ في حصولها مقدّمة لواجب آخر وهو دفع الضرر ، عند قيام احتماله ، كما هو الحال في المقام.

ولا ينافيه كون العلم من شرائط التكليف حتى يقال : بأنّه لا تكليف مع عدمه ، وإلاّ لزم وجود المشروط بدون شرطه وأنّه محال ، فلا معنى لدعوى قيام احتمال الضرر إذ لا يراد به ما كان منه حاصلا بالفعل بل أعمّ منه وممّا كان منه في معرض الحصول ، كما لو تمكّن المكلّف عن تحصيله ، ضرورة أنّ عمدة أدلّة كونه شرطا إنّما هو العقل ، وهو على ما يساعد إليه الوجدان قاض بشرطيّته على هذا الوجه ، ولذا كان الجاهل في عباداته الواقعة على خلاف الواقع غير معذور في جهله إذا كان مقصّرا كما هو التحقيق وعليه غير واحد من المحقّقين ، فلو لا كفاية الاقتدار على العلم في تنجّز التكاليف وتوجّه الخطابات لما يعقل وجه لعدم معذوريّته ، بناء على أنّ المراد به عدم المعذوريّة بالنظر إلى مخالفة الواقع كما هو الظاهر ، وتمام القول فيه موكول إلى محلّه ، ولعلنا نتعرّض لزيادة تحقيق فيه أيضا في ذيل الكلام.

نعم يمكن المناقشة في القاعدة المذكورة بأنّ اجرائها في الامور الاخرويّة الّتي منها المقام ممّا يفضى إلى انسداد باب التمسّك بأصل البراءة ، لكونه في جميع مجاريه ملزوما لاحتمال الضرر الاخروي والمفروض وجوب دفعه بتلك القاعدة ، فأيّ موضع يبنى فيه على الأصل؟

ولكن يدفعها : أنّ أصل البراءة حيثما يكون جاريا رافع لاحتمال الضرر ، كما أنّ العلم بعدم توجّه الخطاب حيثما يحصل رافع له ، غير أنّ جريانه وجودا وعدما يدور مدار موضوع يحقّقه الفحص ويحصّله وهو الشكّ في موضع تعذّر العلم واليأس عن الطرق العلميّة ولو شرعيّة ، ولذا صار جواز العمل به عندهم مخصوصا بما بعد الفحص.

وسنورد زيادة توضيح في ذلك عند الاستدلال بالوجه الرابع.

وإذا بنينا على وجوب دفع احتمال الضرر كما هو المحقّق فطريقه إمّا إعمال الأصل المبتني على كون موضوعه محرزا ، أو تحصيل العلم بتوجّه الخطاب ولو بواسطة العلم بتحقّق سببه الداعي للمكلّف إلى الامتثال أو تحصيل العلم بعدم تعلقه ولو بواسطة العلم

١٠٥

بعدم تحقّق سببه الموجب لارتفاع الاحتمال.

وبعبارة اخرى : دفع احتمال الضرر إنّما يتوقّف على أحد الامور الثلاث من العلم الشرعي بعدم تعلّق التكليف ، وهو الأصل الّذي لا مجرى له إلاّ بعد إحراز موضوعه ، أو العلم الوجداني بعدمه ، أو العلم الوجداني بثبوته ، وأيّ منها كان فهو في محلّ الشكّ الابتدائي موقوف على الفحص فيكون واجبا من باب المقدّمة.

ورابعها : أنّ الفرار عن احتمال وجوب المشروط عند الشكّ في تحقّق الشرط ممّا لا يتأتّى إلاّ مع التشبّث بالأصل ، ولا يجوز العمل به إلاّ في موضوعه ومجراه على حسبما اقتضاه دليله.

ولا ريب أنّ موضوعه حسبما يقتضيه ذلك الدليل هو الشكّ المصادف لتعذّر العلم ، ومجراه حالة اليأس عن الطرق العلميّة.

وذلك لأنّا لو استفدناه عن حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان والعقاب بلا إقامة البرهان كان استفادة هذا المعنى في غاية الوضوح ، فإنّ عدم البيان في موضوع حكم العقل ليس هو مجرّد عدم وجدان المكلّف للبيان ، بل هو عبارة عن عدم وصول البيان إليه في نفس الأمر ، وهو أخصّ من عدم وجدانه.

ولو استفدناه عن حكم الشرع بنفي التكليف أو لوازمه عمّن لا يعلم به بواسطة الآيات والروايات الواردة في هذا الباب ، مثل قوله عزّ من قائل ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(١) و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(٢) وقوله عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٣) و « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (٤) و « الناس في سعة ما لم يعلموا » (٥) أو « رفع عن امّتي تسعة منها ما لا يعلمون » (٦) ونحو ذلك ممّا هو مقرّر في محلّه فكذلك أيضا ، فإنّك إذا تأمّلت في تلك النصوص بعين الدقّة لوجدتها بأسرها قاضية بكون العبرة في مفادها بحالة العذر واليأس عن العلم ، ضرورة ظهور « البيّنة » الّتي علّق عليها الهلاك فيما يكون كذلك بحسب الواقع ونفس الأمر ، فيكون العبرة في عدمها الملازم لانتفاء الهلاك بعدم وصولها إلى المكلّف بحسب الواقع أيضا لا بمجرّد عدم وجدانه إيّاها في بادئ الأمر.

وظهور « الإتيان » في وصول الخطاب إليه بحسب الواقع ، فيكون المراد بعدمه المأخوذ

__________________

(١) الأنفال : ٤٢.

(٢) الطلاق : ٧.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٣.

(٤) وسائل الشيعة ٦ : ٢٨٩.

(٥) مستدرك الوسائل ١٨ : ٢٠.

(٦) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩.

١٠٦

موضوعا في المستثنى منه عدم وصول الخطاب إليه كذلك ، وظهور قضيّة « الحجب » المسندة إلى الله سبحانه فيما لو لم يصل إليهم الخطاب في نفس الأمر ، وعدم صدقها فيما لو استند عدم علمه إلى تسامحه في التعلّم وقلّة مبالاته في تحصيل المعرفة بالأحكام مع تيسّره عن الطرق العلميّة ووصول البيان إليه على حسب بلوغ أسبابه العادية إليه.

وظهور الغاية وهي ورود الأمر والنهي في وصول الخطاب إليه بحسب نفس الأمر ، فيكون المعتبر في موضوع المغيّا ـ وهو الإطلاق الملازم لانتفاء التكليف ولوازمه ـ عدم وصوله بعدم ورودهما كذلك.

وظهور عدم العلم في الجهل الصرف الّذي لا يتحقّق إلاّ في حقّ الغافل أو المعتقد بالخلاف من باب الجهل المركّب أو الشكّ المستقرّ الّذي يتحقّق لمن التفت إلى احتمال توجّه الخطاب ، وظاهر أنّ الشكّ لا يتأتّى له الاستقرار إلاّ مع اليأس والعذر.

هذا مضافا إلى استفادة ذلك أيضا عن سياق الرواية بقرينة سائر الفقرات المذكورة فيها من السهو والنسيان والخطأ والإكراه ، نظرا إلى كون هذه الامور بأجمعها ممّا لا اختيار للمكلّف فيها ، بل هي من الاضطراريّات الطارئة عليه قهرا الخارجة عن اختياره بالمرّة ، فليكن المعتبر في عدم العلم أيضا ما لا يكون لاختيار المكلّف مدخليّة فيه أصلا ، وظاهر أنّ عدم العلم إذا صادف رجاء حصوله بالفحص وتيسّر له ذلك أيضا ممّا يصدق عليه أنّه ممّا يكون لاختياره مدخليّة فيه ، سيّما إذا كان في موضع لو أتى فيه بالفحص لتوصّل إلى طريق علمي ، لكونه حينئذ ناشئا عمّا تركه اختيارا من الفحص والاستعلام ، فلا يكون ممّا يتناوله الرواية في قضائها برفع المؤاخذة.

فصار محصّل مفاد كلّ هذه النصوص أنّ موضوع ذلك الأصل إنّما هو الشاكّ المتعذّر عن العلم المأيوس عن طرقه ، ولا ريب أنّ هذا المعنى لا يحرز في مواضع رجاء العلم إلاّ بعد الفحص فيكون واجبا ، وبدونه كان العمل بالأصل غير جائز لخروجه عمّا أفاده أدلّته.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذه الوجوه بأسرها جارية في جميع المقامات حتّى عند العمل بالأصل في موضع الشكّ في طهارة شيء من الموضوعات ونجاسته ، أو حلّيته وحرمته ونحوه ، فيشكل الحال بملاحظة ما سبق عن بعض مشايخنا من دعوى الإجماع على عدم الفحص في الموضوعات.

ويمكن الذبّ عنه بعدم ثبوته أوّلا ، وقد عرفت حكاية الاختلاف عن بعض الأعاظم ،

١٠٧

وهو المعتمد بملاحظة ما نرى من عمل بعضهم بالخلاف وفتواه بلزوم الفحص كما عرفت عن بعض الأعلام ، مضافا إلى شهادة القول المعروف بوجوب السعي في رؤية هلال رمضان.

ومنع اعتباره ثانيا ، لأنّ المسألة اجتهاديّة والإجماع إنّما يعتبر من حيث الكشف ، فيختصّ مورده بالتعبّديّات ولا يجري في الاجتهاديّات ، مضافا إلى أنّه على فرض ثبوته غير واضح المدرك ، بل القطع حاصل ـ بملاحظة ما قرّرناه ـ بابتنائه على الخطأ في الاجتهاد ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فلعلّه ناش عن دليل تعبّدي بلغهم في ذلك وكلامنا في المقام إنّما هو في مقتضى القواعد الاصوليّة فلا ينافي ورود التعبّد الشرعي على خلافها ، فتأمّل جيّدا.

ثمّ بقي في المقام فروع ينبغي الإشارة إليها :

منها : أنّ ما سبق من البحث في وجوب الفحص إنّما هو على تقدير إمكانه مع إمكان حصول العلم بأحد الطرفين ولو في نظر المكلّف إذا كان راجيا لحصوله ، وأمّا مع التعذّر فإن كان العذر في أصل الفحص ـ بأن لا يتمكّن عن محاسبة ماله لإحراز الاستطاعة أو النصاب نفيا وإثباتا ، لعدم تمكّنه عن ماله أو لعدم مقوّم يقوّمه ـ فلا إشكال في سقوط التكليف به عقلا ، ضرورة امتناع التكليف بغير المقدور ولو كان غيريّا ، وإن كان العذر في حصول العلم مع تمكّنه عن الفحص ـ بأن يكون قاطعا بأنّه لا يحصل له العلم وإن بلغ فحصه ما بلغ ـ فهل يجب عليه الفحص أيضا أو لا؟ وجهان ، من كون وجوبه حيثما يثبت نفسيّا لمصلحة كامنة فيه لذاته ، أو غيريّا ناشئا عن وجوب غيره ، ولكن قضيّة ما قرّرناه من الوجوه على وجوبه كون الوجوب الثابت له غيريّا وإن أو هم ما عدا الوجهين الأخيرين بل ما عدا الوجه الثاني في بادئ النظر كونه نفسيّا ، لوضوح أنّ الوجوب الثابت هنا إنّما يثبت من باب المقدّمة وقد قرّرنا في محلّه أنّ الوجوب المقدّمي غيريّ تبعي ، ومن لوازم الوجوب الغيري أنّه لا يثبت إلاّ مع ثبوت وجوب الغير ، كما أنّ من خواصّ الوجوب المقدّمي أنّه لا يثبت لشيء إلاّ في موضع المقدميّة.

وظاهر أنّ ذا المقدّمة في الفرض المذكور لا وجوب له على تقدير ولا حاجة له إلى مقدّمة على آخر ، فإنّ وجوب الفحص على ما عرفت إمّا أن يكون للتوصّل إلى العلم أو لإحراز موضوع الأصل وهو التعذّر ، والعلم مع تعذّره لا يعقل وجوب له فلا يعقل الوجوب لمقدّمته ، لأنّ وجوبها مشروط بالقدرة على ذيها كما أنّه مشروط بالقدرة على نفسها ،

١٠٨

وكونه متعذّرا من أوّل الوهلة رافع لتوقّف إحراز تعذّره على شيء ، ومعه لا يعقل للفحص مقدّميّة فلا يعقل اتّصافه بالوجوب ، بل وجوبه على هذا التقدير شرطي ، لكونه شرطا لجواز العمل بالأصل كما هو مفاد الوجه الأخير ، ومن الممتنع صدق عنوان « الشرطيّة » عليه مع تحقّق ما هو مناط المشروط به الموجب لتحقّق المشروط.

ولا ينافي ذلك مفاد الوجه الأوّل ولا الوجه الثاني عند التحقيق ، لابتناء حكم العقل بجواز معاقبة التارك للفحص على كونه عقابا على ترك ذي المقدّمة كما هو الحال في سائر المقدّمات بالقياس إلى تركها ومخالفة الأمر بها ، وبناء العقلاء في خطاباتهم أيضا ناظر إلى هذا المعنى ، حيث لا يفهمون منها بالنسبة إلى الفحص إلاّ وجوبه للغير ، فلذا لا يبادرون إلى توبيخ من ترك الفحص في موضع الشكّ مع إدراكه الواقع لمجرّد الاحتمال أو تعويلا على الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال.

ومنها : أنّه لو ترك الفحص في موضع إمكانه مع رجاء العلم فصادف تحقّق الشرط في الواقع فلا إشكال في استحقاقه العقاب على مخالفة الواقع ، المتحقّقة بترك المشروط ، لمصادفته تحقّق ما هو مناط تنجّز التكليف وهو التمكّن عن العلم به ، وأمّا لو صادف عدم تحقّقه ففي استحقاقه العقاب وجه مبنيّ على قبح التجرّي كما هو الأظهر ، لا على الواقع حيث لا مخالفة له ، ولا على ترك الفحص حيث إنّ وجوبه غيريّ.

ومن هنا ـ مضافا إلى ما سبق ـ تبيّن حكم الجاهل في العبادات ، فإنّ التحقيق فيه أنّه معذور مع القصور سواء خالف عمله الواقع أو طابقه ، كما أنّه معذور مع التقصير بالقياس إلى الواقع لو طابقه عمله إن جوّزنا له إمكان قصد التقرّب مع الجهل فإنّه غير خال عن الإشكال ، وإن كان غير معذور من جهة التجرّي ، وليس بمعذور معه بالقياس إليه أيضا لو خالفه عمله ، والحجّة على الجميع ما أشرنا إليه في هذا الفرع وسابقه.

ومنها : أنّه لو تعذّر عن الفحص ، أو تمكّن عنه وتعذّر له العلم ابتداء ، أو صادف فحصه تعذّره إلى أن انكشف له بعد زمان تحقّق السبب حين التعذّر ، فإن كان المحلّ باقيا ببقاء سبب الحكم وموضوعه فلا محيص من أداء الفرض لوجود المقتضي وفقد المانع ، وليس عليه بالقياس إلى ما سبق شيء ، كما أنّه لو كان المحلّ فائتا بارتفاع السبب والموضوع معا كما في إزالة النجاسة عن المسجد إذا حصلت بنزول المطر ونحوه ، أو ارتفاع الموضوع فقط كما في أحكام الموت إذا احترق الميّت أو القي في البحر ونحوه ، لا شيء عليه بالنظر

١٠٩

إلى السابق واللاحق.

وأمّا لو كان الموضوع باقيا مع انتفاء السبب كالاستطاعة إذا انكشف زوالها بعد تحقّقها حال تعذّر العلم أو الفحص فلا شيء عليه بالنظر إلى ما سبق ، وأمّا بالنظر إلى اللاحق فهل يجب عليه العمل أداء لو كان وقته باقيا ، أو قضاء لو كان في خارج الوقت أو لا؟

فالّذي يتراءى في بادئ النظر وجوب أدائه مع بقاء وقته أخذا بموجب التعليق على الأمر الواقعي بلا مدخليّة للعلم فيه والمفروض تحقّقه فيؤثّر أثره ، نظرا إلى أنّ التعليق قد وقع على حدوث السبب لا بقائه ، فلذا يجب الحجّ على من تعمّد في تأخيره إلى ما زالت الاستطاعة.

ولكن صحيح النظر يعطي خلافه ، لأنّ العلم وإن لم يكن داخلا في السبب ولكنّ العلم بتحقّقه شرط لتنجّز التكليف المشروط به ، وفرض العذر ينافيه ، وظاهر أنّ انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط ، فالتكليف ليس بثابت لا حين تحقّق السبب ولا حين الانكشاف أمّا الأوّل : فلانتفاء أحد شرطيه.

وأمّا الثاني : فلانتفاء شرطه الآخر ، وحدوث السبب إنّما يصلح سببا لثبوت التكليف مع اجتماع سائر شرائطه ، والمفروض انتفاء بعضها حين حدوثه ، فلا يعقل معه ثبوت المشروط سواء كان وقته باقيا أو لا ، ولا ينافيه وجوب القضاء في صوم الحائض وصلاة النائم لأنّه تعبّد ثابت بالدليل فيقتصر على مورده. ولا يقاس عليه غيره.

ومن هنا بان حكم ما لو ترك الفحص مع إمكانه إلى ما انكشف زوال السبب بعد تحقّقه ، فإنّه يجب عليه العمل لو كان وقته باقيا لانكشاف سبق تعلّق التكليف بتحقّق شرطيه ، بناء على ما سبق تحقيقه من أنّ شرط التكليف من العلم ما يعمّ الجهل المصادف لتمكّن إزالته ، وهو حاصل حين تحقّق السبب.

وقد عرفت أنّ ما علّق عليه التكليف من السبب إنّما هو حدوثه لا بقاؤه ، فالشرطان متحقّقان حال ترك الفحص فيؤثّران أثرهما ، وأمّا لو صادف ذلك حال خروج الوقت فوجوب القضاء مبنيّ على ورود الأمر الجديد لعدم كونه بالفرض الأوّل.

ومنها : أنّه لو ترك الفحص في الواجب الكفائي تعويلا على أنّه لو كان سبب وجوبه متحقّقا لقضى العادة باطّلاع غيره عليه ، فيقوم بالعمل فيسقط عنه الفرض على فرض تعلّقه به بتحقّق سببه في الواقع ، فهل يكون معذورا في ترك الفحص بالنسبة إلى عنوان التجرّي أو لا؟

١١٠

وتحقيق هذا الكلام مبنيّ على النظر في أنّه لو علم بالسبب وتقاعد عن القيام بالعمل تعويلا على قيام من يسقط بفعله الفرض عنه عادة هل يجوز له ذلك أو لا؟ إذ قد ذكرنا أنّ الفحص إنّما يجب مقدّمة وإذا جاز التقاعد عن العمل في ذي المقدّمة إلى من يسقط بفعله الفرض فلأن يجوز في مقدّمته طريق الأولويّة.

والتحقيق في ذلك حسبما يساعد إليه القواعد يقتضي التفصيل بين ما لو كان الفرض من الموسّعات وما لو كان من المضيّقات.

فعلى الأوّل لا إشكال في الجواز ، لأنّ غاية ما يستلزمه التقاعد حينئذ إنّما هو التأخير لو لم يحصل الشروع من الغير حين عزمه عليه ، وهو جائز في الموسّع مع الظنّ بسلامة نفسه ، فيكون جائزا مع العلم بمباشرة الغير فيما بعد ذلك بطريق أولى.

وأمّا مع الظنّ بمباشرة الغير فلا يبعد الجواز أيضا ، قياسا له على الظنّ بسلامة نفسه في العاقبة بالنسبة إلى واجباته العينيّة ، لأنّ الظنّ إنّما يعتبر هنا تحرّزا عن موضوع العصيان في التأخير بالتجرّي وهو منقّح بالقياس إلى الفرض المذكور.

ولكن يضعّفه إمكان إبداء الفارق بين المقامين ، وهو أنّ الظنّ بسلامة العاقبة إنّما يكتفى به في إحراز جواز التأخير ، لتعذّر العلم بها عادة كما هو الحال في الحكم بتنجّز التكاليف أوّل الوقت على من يظنّ بالسلامة والتمكّن ، نظرا إلى عدم إمكان العلم بهما لغالب الناس ، وهذا المعنى ليس بمحرز في محلّ البحث فلا معنى لدعوى تنقيح المناط.

إلاّ أن يقال : بأنّ اعتبار الظنّ فيما ذكر إنّما ثبت من جهة الإجماع فتوى وعملا بل السيرة أيضا ، وهو ليس بمعلّل بما ذكر وإن صادف ذلك معقده.

ومن البيّن أنّ مجرّد مصادفة شيء لمعقد الإجماع لا يصلح علّة لانعقاده ولا باعثا على جعل الحكم المجمع عليه ، ولكنّه لا يجدي نفعا في المقام ، لأنّ غايته عدم العلم بالفارق ، والمعتبر في تنقيح المناط إنّما هو العلم بعدم الفارق وهو ليس بحاصل ، وجريان ما تقدّم من التعليل بالتحرّز عن موضوع العصيان في كلا المقامين لا يقضي بعدم الفرق بينهما ، لجواز قيام الفرق بما ذكر من قضيّة تعذّر العلم ولو احتمالا ، ومن البيّن أنّ احتمال قيام الفرق ينافي العلم بعدم الفرق.

فالأولى أن يقال : باعتبار الظنّ بسلامة نفسه في العاقبة مع الظنّ بصدور الفعل من غيره فيها ، ومع عدمه لا يسوغ له التأخير ، إذ لا طريق له إلى الجواز إلاّ ظنّه بمباشرة الغير فيما

١١١

بعد ذلك وهو ليس بثابت الطريقيّة هنا ، حيث لا دليل عليه إلاّ أن يتمسّك بالإجماع أو السيرة وهو في غاية الإشكال ، لعدم ثبوت الأوّل وجواز ابتناء الثاني على التسامح وقلّة المبالاة.

ومن هنا تبيّن حكم ما لو احتمل عنده قيام الغير بالعمل فيما بعد ذلك ولو مرجوحا ، فإنّ جواز التأخير له ينوط بظنّ سلامة نفسه ، بل المعتبر في جواز التأخير له في غير صورة العلم بقيام الغير إنّما هو ظنّه بسلامة عاقبته ، وفرض ظنّه بقيام الغير معه ممّا لا يؤثّر في شيء ، فيكون كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

وربّما يمكن الإشكال بالقياس إلى جواز التقاعد في صورة العلم بصدور العمل من غيره ، نظرا إلى ما تقرّر سابقا من [ أنّ ] الأمر في الكفائي كما في العيني [ إنّما ] يتوجّه إلى الكلّ ويقصد به مباشرة الكلّ ، فالعلم المذكور إن حصل بدون ظنّه بسلامة نفسه في العاقبة كان كالعلم في الواجبات العينيّة بصدور العمل من غيره من المكلّفين مع عدم ظنّه بسلامة نفسه في العاقبة ، فكما أنّه لا يقضي بجواز التأخير له في عمل نفسه فكذلك في المقام ، وإن حصل مع ظنّه بسلامة نفسه كان العبرة في جواز التأخير له بذلك الظنّ ، فيكون العلم المفروض معه كالحجر الموضوع في جنب الانسان ، فلا وجه للحكم بجواز التقاعد استنادا إليه أصلا.

ولكن يدفعه : أنّ غاية ما يقبح هنا إنّما هو التقاعد عن العمل بعنوان العصيان ، وكلامنا إنّما هو في التقاعد بعنوان التعويل على حصول المسقط مع العلم به وهو ليس بقبيح عقلا ولا عرفا ، بل هو ممّا يجوّزه العقل والعرف.

ووجهه : أنّ الواجب في الكفائي وإن كان ملزوما لطلب المباشرة من الكلّ كالعيني ، غير أنّ بينه وبين العيني فرقا في نظر العقل والعرف ، وهو أن فعل البعض في الكفائي لكونه مسقطا للفرض عن البعض الآخر فكأنّه قائم مقام فعل ذلك البعض ، والّذي قام به يعدّ في نظر العقل والعرف نائبا عن الّذي لا يقوم به ، وإن لم يكن ذلك مؤدّيا للفعل بعنوان النيابة بل إنّما يأتي بما يجب على نفسه أصالة ، فينزّل فعله عند العقل والعرف منزلة فعل غيره من مشاركيه في التكليف ، فلذا نرى العرف لا يقبّحون من يتقاعد في الكفائي حين اشتغال غيره بالعمل ، تعويلا على أنّه كاف في حصول غرض المولى ومسقطا عن فرضه ولا يعاقبه المولى لو رآه على هذه الحالة ، وكما أنّ تقاعد البعض حال اشتغال غيره على الوجه المذكور جائز عرفا وعقلا ولا قبح فيه أصلا ، فكذلك حال علمه بأنّه سيحصل الاشتغال من غيره في المستقبل ، فإنّ المناط إنّما هو حصول الغرض وقيام المسقط وكون الغير

١١٢

بمنزلة النائب وفعله بمنزلة فعل المتقاعد ، وهو حاصل في كلا المقامين جزما ، ولا يعتبر معه ظنّ بالسلامة ولا غيره بخلاف صورتي الظنّ والاحتمال ، فإنّ المناط المذكور ليس بمحرز فيهما بعنوان الجزم واليقين ، فلا قضاء للعقل ولا العرف فيهما بشيء ، بل يمكن دعوى أنّهما حينئذ يقضيان بالخلاف وعدم جواز التقاعد إلاّ مع الظنّ بالسلامة ، دفعا للضرر المحتمل المتولّد عن احتمال عدم حصول المباشرة من الغير أيضا ، فيبقى الواجب بلا تعقّبه للامتثال فيوجب الوقوع في المؤاخذة والعقاب.

وعلى الثاني (١) : يفصّل ما لو حصل الشروع من الغير في أوّل أزمنة إمكان العمل وما لو حصل بعده ، فعلى الأوّل يجوز التقاعد لما عرفت من قضيّة تنزيله منزلة النائب بحكم العقل والعرف.

وعلى الثاني لا يجوز لاستلزامه تأخير المضيّق وهو غير جائز على ما هو مفاد التضييق ، ولو كان بالمعنى الأعمّ.

فصار محصّل الكلام : أنّ التقاعد في الموسّع جائز مع العلم بحصول المباشرة من الغير ولو في الآجل دون غيره ، فلا بدّ حينئذ إمّا من الظنّ بسلامة العاقبة أو مباشرة الفعل فعلا ، وبدونهما يعصى بالتأخير وإن صادف حصول الفعل بعده ، وفي المضيّق جائز مع حصول الاشتغال فعلا دون غيره وإن علم بحصوله في الآجل.

وبمثل ذلك يفصّل في التقاعد عن الفحص لمن لا يعلم بتحقّق السبب ، ففي الموسّع يجوز مع العلم بأنّه على تقدير تحقّقه يطّلع عليه غيره عادة ويأتي به ولو في الآجل ، وفي المضيّق يجوز مع العلم بحصول الاشتغال فعلا من غيره لو كان السبب متحقّقا على وجه يقضي العادة باطّلاع ذلك الغير عليه لئلاّ يلزم تأخير المضيّق في الامتثال.

وثالثها : أنّ الواجب حيثما تمّ شرائط وجوبه يترتّب عليه جميع أحكامه ولوازمه ، من كون فاعله ممدوحا مستحقّا للثواب وتاركه مذموما مستوجبا للعقاب ، والكفائي أيضا بعد تمام أسبابه ليس إلاّ على حدّ سائر الواجبات مستلزم إيجاب جميع ما له مدخليّة في إيجاده من باب المقدّمة.

وهذا ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الإشكال في أنّ إيجاده في الخارج قد يتوقّف على صرف مؤنة وبذل مال فهل يجب ذلك على المكلّفين كما يجب أصل العمل ، كما هو الحال في

__________________

(١) عطف على قوله : « فعلى الأوّل لا إشكال في الجواز » الخ.

١١٣

الواجبات العينيّة إذا توقّف حصولها على صرف الماء كالوضوء ونحوه ، وفي موضوع توقّف تحصيل الماء على أن يتّجر بشيء من المال ولو كثيرا أو لا يجب ذلك؟ بل الواجب أصل العمل في موضع اتّفاق ما يفتقر إلى صرف المال من غير جهته؟

فقضيّة القول بوجوب المقدّمة هو الوجوب ، لأنّه ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به فيجب ، والمفروض أنّه يثبت بحكم العقل فليس قابلا للتخصيص.

ولكن يشكل ذلك في تغسيل الميّت وتكفينه وسائر أعماله المحتاجة إلى المؤنة إذا لم يخلّف ما يتّجر به السدر والكافور والكفن ونحوه ، لقيام سيرة الناس على عدم الالتزام بذلك ، بل فتوى الفقهاء قائمة بذلك مصرّحة باستحباب البذل حينئذ كما في الشرائع وغيره ، وفي إرشاد العلاّمة : « ويستحبّ للمسلمين بذل كفن الميّت لو فقد الكفن » وفي كلام جماعة نفي الخلاف عن عدم الوجوب كما عن المسالك والذخيرة والنهاية ، بل عليه نقل الإجماعات على حدّ الاستفاضة ، ومنها ما عن الرياض وشرح الوسائل في محكي اللوامع.

وربّما يتوجّه هذا الإشكال بالنظر إلى بناء العرف في أوامرهم لما نجدهم ملتزمين ببذل المؤن فيما يرجع إلى أنفسهم من مصالح الواجبات دون ما يرجع منها إلى غيرهم آمرا كان أو غيره ، ولذا لو أمره العالي بشرب الدواء مثلا لا يسمع عذره في ترك الشرب بعدم حضور الدواء عنده مع تمكّنه من إحضاره ولو بالاتّجار ، بل لا يزال مذموما عند الآمر وغيره ممّن عثر بحاله ، بخلاف ما لو أمره بترتيب الدواء المخصوص له أو لغيره ، فإنّه لا يلتزم بالامتثال إلاّ إذا حضر أجزاء ذلك الدواء عنده أو كان عنده من مال الآمر ما يكفيه في تحصيل أجزائه ، متقاعدا عن العمل مع انتفاء الأمرين وتمكنه من تحصيل المطلوب ببذل شيء من نفسه ، فإنّه حينئذ لا حرج عليه ويسمع عذره ولا يؤاخذ بتمكّنه عن صرف المال من نفسه.

وهذا الفرق بين المقامين كما ترى ممّا لا يعرف له وجه ، فإن كان الالتزام ببذل المال في الأوّل ممّا ينشأ عن استلزام الأمر بالشيء إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به فالتفكيك بينه وبين الثاني ممّا لا يعقل ، وإن كان عدم الالتزام به في الثاني من جهة أنّ الخطاب ممّا لا قضاء له بذلك ، فلا يتمّ إلاّ على تقدير منع استلزام الأمر بالشيء إيجاب مقدّماته فهو جار في الأوّل أيضا.

إلاّ أن يقال : بأنّ ذلك حكم آخر ثبت عندهم في الأوّل بقرينة خارجة عامّة وهو في غاية البعد ، مع أنّ استلزام الأمر بالشيء إيجاب مقدّماته ممّا يشهد به ضرورة العقول فكيف

١١٤

يخفى على العرف.

ولو قيل بالنسبة إلى الشرعيّات بأنّ القاعدة وإن كان تقتضي ذلك إلاّ أنّ عموم « لا ضرر ولا ضرار » و « لا يحلّ مال امرء إلاّ بطيب نفسه » و ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(١) ونحوه أوجب الخروج عنها.

لدفعه : أنّ القاعدة إذا كانت مأخوذة من العقل ـ ولو تبعا ـ امتنع تخصيصها.

نعم يمكن التفصّي عن الإشكال فيها وفي العرفيّات بأحد من الطرق الثلاث من منع دخول بذل المال في عداد المقدّمات ، أو دعوى كون الواجب بالنسبة إليه مشروطا ، أو دعوى كونه مشروطا بما هو محصّل له ، فعدم وجوبه إمّا من جهة أنّه ليس بمقدّمة أصلا ليجب تحصيله ، أو من جهة أنّه مقدّمة وجوديّة اخذت مقدّمة للوجوب أيضا كالقدرة فلا يتّصف بالوجوب المقدّمي باتّفاق من أصحاب القول بوجوب المقدّمة وأصحاب القول بنفي الوجوب ، أو من جهة أنّه يرجع في الحقيقة إلى السعي في تحصيل مقدّمة الواجب المشروط فلا يجب ، كالسعي في تحصيل الاستطاعة الّتي جعلت شرطا للوجوب بالتكسّب ونحوه ، حيث لا يجب اتّفاقا من أصحاب القولين.

أمّا الأوّل فبأن يقال : انّ المقدميّة وصف يعبّر عنه بكون الشيء موقوفا عليه لحصول غيره ، وهو وصف وجودي في الشيء يعرضه إذا كان في ذاته لذاته أو لجريان العادة أو لاعتبار المعتبر شيء يقتضي تقدّمه بحسب الرتبة على غيره ممّا فرض هو مقدّمة له وكونه من لوازم وجوده ، بحيث لولاه لما اتّفق له وجود في الخارج أصلا ، لا لأنّ انتفاءه يكشف عن انتفاء شيء من مقدّمات وجوده كما في المعلولين لعلّة ثالثة ، بل لأنّه يكشف عن كونه بنفسه مقدّمة له ، فيقال له المقدّمة حينئذ ، عقليّة كانت إذا كان تقدّمها الذاتي من مقتضيات ذاتها وطبعها ، أو عاديّة إذا كان تقدّمها ممّا جرت به العادة ، أو شرعيّة إذا كان تقدّمها ممّا اعتبره الشارع بأن لاحظ في ذيها نحو تقييد لولاها لما لحقه ذلك التقييد ، فإنّ العقل إذا لاحظ ما فيها من مقتضي التقدّم بإحدى الجهات الثلاث يحكم بكونها مقدّمة وموقوفا عليها ، فالتوقّف في الكلّ عقليّ وإن كان ما ينشأ منه التوقّف قد يكون بحكم العادة وقد يكون بجعل الشرع ، وهذا المعنى كما ترى غير متحقّق في المقام بالقياس إلى بذل المال في تحصيل التمكّن عن أداء الواجبات الكفائيّة في الشرعيّات والواجبات الّتي يرجع

__________________

(١) النساء : ٢٩.

١١٥

مصالحها إلى غير المكلّف في العرفيّات ، وذلك لوضوح عدم لحوق التقييد الشرعي بما هو واجب بالقياس إليه ، وعدم جريان العادة بإيصال المصالح إلى الغير بواسطة بذل الأموال.

نعم قد يتّفق ذلك في بعض الأحيان ومجرّد ذلك لا يوجب حصول العادة ، وعدم اشتماله على ما يقتضي تقدّمه بالذات على العمل في نظر العقل ، بل غاية ما في الباب أنّه يتقدّم عليه بالذات حصول ما يتأدّى به ، فلذا يقال : انّه حصل فتأدّى به العمل ، وهو قد يتّفق في بعض الأحيان أنّه يقارنه البذل من باب المقارنات الاتّفاقيّة. ولكنّ الانصاف أنّه لا مجال إلى إنكار المقدميّة من جهة العقل هنا ، إذ لا يراد بالمقدّمة ما يكون بلا واسطة فحصول ما يتأدّى به العمل مقدّمة بلا واسطة ، وله أيضا مقدّمات منها البذل ، فكونه من إحدى مقدّمات المقدّمة كاف في ترتّب حكم المقدّمة عليه لو كان في حدّ ذاته مقدّمة للوجود الصرف.

وأمّا الثاني فبأن يقال : إنّ مقدّمة الواجب ـ على ما قرّر في محلّه ـ إنّما يجب تحصيلها إذا كان ذلك الواجب مطلقا ، والواجب قد يكون مشروطا إذا كان مقدّمة وجوده غير مقدور لاعتبار اشتراط وجوبه حينئذ بحصول تلك المقدّمة ، ولا يعقل في مثله إطلاق الوجوب لأدائه إلى التكليف بغير المقدور ، ومحلّ البحث من البذل الّذي ينظر في وجوبه كفاية على المسلمين من جملة المقدّمات الغير المقدورة ، لأنّه ليس عبارة عن مجرّد الإعطاء باليد وما يقوم مقامها ، بل هو في الحقيقة أمر معنوي هو من صفات النفس ويعبّر عنها في الفارسيّة بـ « گذشت كردن » وهذه الصفة كما ترى من الصفات الاضطراريّة الخارجة عن اختيار المكلّف ، المنوطة في حدوثها للنفس بقيام دواع أحيانيّة غير اختيارية راجعة إلى إحراز ما يصلحه في معاشه ومعاده ، أو دفع ما يفسده فيهما من المضارّ ومنافيات الرأي ، وظاهر أنّ بذل المال في المقام ممّا لا داعي إليه يعتدّ به في نظر العرف ليكون هو من جهة تحقّقه دائم الحدوث للنفوس ، ولا سيّما بملاحظة ما في أكثرها من الانقباض في فكّ المال عن نفسه مجّانا.

وهذا المعنى هو الّذي اعتبره الشارع في صحّة المعاملات من العقود والإيقاعات ونبّه عليه بقوله : « لا يحلّ مال امرء إلاّ بطيب نفسه » و ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(١) ونحو ذلك ممّا يشتمل على اعتبار الرضاء النفساني ، وكون الرضاء من الامور الغير الاختياريّة المنوطة بدواع غير اختياريّة ممّا لا كلام فيه ، وإذا كان البذل في حدّ ذاته وصفا غير اختياري ولا داعي إليه في خصوص المقام يكون دائم التحقّق عند

__________________

(١) النساء : ٢٩.

١١٦

النفس ـ كما في الاكتسابات المبنيّة على شيء من الدواعي الحاصلة عند النفس دائما ـ فيقبح التكليف به كما يقبح إطلاق التكليف بما يتوصّل به إليه المستلزم للتكليف به أيضا.

نعم لو حصل البذل اتّفاقا من جهة شيء من الدواعي صحّ التكليف بما يتوصّل به إليه وبسائر مقدّماته ، ولكنّه لا يجدي نفعا في إحراز كون التكليف به ثابتا على الإطلاق ، ليلزم منه إطلاق [ التكليف بما يتوصّل به إليه ].

ولا يقاس ذلك على ما تقدّم الإشارة إليه من مسألة وجوب السعي في [ تحصيل الطهارة المائيّة ] ولو ببذل المال في تحصيل الماء ولو كثيرا ، أو اشترائه ولو بأزيد [ من ثمن المثل ، لأنّه ] تعبّد ثبت بالشرع من جهة ما ورد فيه من الروايات.

[ خصوص ] قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا )(١) حيث إنّه علّق جواز التيمّم [ على عدم وجدان الماء ] والوجدان يصدق مع التمكّن عن الماء بشرائه وبذل المال فيه.

نعم ... أيضا إلى قاعدة المقدميّة ولكنّه عند التحقيق بملاحظة ... بل العمدة في المقام هو النصّ والإجماع ، لا بمعنى أنّ النصّ ... بتعلّق التكليف بما ذكر من الأمر النفسي الغير المقدور ليتّجه المحذور ، ... المأمور به هنا في الحقيقة هو ما يقصد من الغايات عن ذلك الأمر النفسي ... إعطاء المال باليد ودفع الثمن بالجارحة أو ما يقوم مقامهما ، وهي كما ترى امور مقدورة للمكلّف فلا يقبح التكليف بها.

لا يقال : فعلى هذا إيجاب الاشتراء على المكلّف ممّا لا مجال إلى انطباقه على القاعدة المقتضية لاعتبار الرضاء النفساني في العقود ، إذ مفروض المقام انتفائه فلا يقتضي الاشتراء إباحة استعمال ما يشترى به ، مع انّ الغرض الأصلي منه إنّما هو التوصّل إلى استعماله ، لأنّا قد ذكرنا أنّه صفة نفسانيّة تحدث قهرا بحدوث دواعيها ، والفرار عن مخالفة أمر الشارع بالاشتراء ودفع المال وعصيانه الحاصل من جهة إفضاء ذلك إلى ترك ما هو مقصود بالأصالة يصلح داعيا إليه وباعثا عليه ، فكان الاشتراء حينئذ مقرونا بما هو شرط للصحّة.

فإن قلت : فلم لا تعتبر مثل ذلك في محلّ البحث ولا يلتزم بتعلّق الأمر المقدّمي بما فرضته من الامور الاختياريّة ليوجب بالأخرة حدوث الأمر الغير الاختياري وهو البذل الّذي هو من صفات النفس.

قلت : الالتزام بذلك ممّا يحتاج إلى دليل وقد عرفت أنّ المستند فيما التزمنا به إنّما هو

__________________

(١) النساء : ٤٣.

١١٧

النصّ وهو ليس بموجود في المقام ، بل العمدة على تقدير الالتزام إنّما هو وجوب المقدّمة ، وهو مبنيّ على إطلاق الأمر بذي المقدّمة ، وظاهر أنّ أوّل المقدّمات في المقام إنّما هو البذل بالمعنى المذكور ، وما ذكر من إعطاء المال ودفع الثمن بالجارحة من لوازمه ، وهو لكونه غير مقدور لا يصلح لاطلاق الأمر بالنسبة إليه ، ولم يثبت إطلاقه ... أيضا ، مع أنّه غير معقول ، مع كون بعض مقدّماته غير مقدورة ، فإنّ الواجب ... مرتّبة في الوجود الخارجي ، مع كون أوّل تلك المقدّمات أو بعضها ... الأمر به باعتبار مقدوريّة بعض مقدّماته ، لأنّه بحكم الملازمة ... جميع مقدّماته الّتي منها المقدّمة الغير المقدورة ، لأنّ ... الوجوب لها من جهة الأمر بذيها في عرض واحد ودرجة ... الكثرة ما بلغت ، مضافا إلى أنّ الاستفادة الأمر باللوازم عن الأمر بذي المقدّمة هنا ممّا يفضي إلى الدور ، لأنّ ذلك موقوف على كون ذلك الأمر مطلقا وهو موقوف على كون تلك الصفة النفسانيّة ممّا ألغاها الشارع ، وهو موقوف على كون ذلك الأمر مطلقا ، وهو دور صريح.

نعم لو اتّفق بتلك المقدّمة الغير المقدورة حصول في الخارج أحيانا صحّ الأمر به ، فيقضي ذلك الأمر بوجوب سائر مقدّماته المقدورة.

وممّا ذكر تبيّن أنّه لا مجال لأحد إلى أن يقول ... أنّ إطلاق الأمر بالنسبة إلى لوازم البذل غير ثابت بأنّ الأصل فيه ... (١) في محلّه إنّما هو الإطلاق ، لأنّ ذلك في مورد قيام القرينة على الخلاف ... وعدم مقدوريّة بعض المقدمات مع ملاحظة ما ذكرناه من القاعدة ... قرينة قويّة على ذلك ، فلذا صرّحوا بكون الواجب بالنسبة إلى مقدّماته الغير المقدورة مشروط.

نعم لو فرض ورود نصّ بالخصوص متعلّق بلوازم البذل لا مناص من المصير إلى وجوبها الكاشف عن إطلاق الأمر بأصل ذي المقدّمة من غير لزوم محذور ، لأنّ الأمر باللوازم حينئذ ينتهض داعيا إلى حصول الأمر الغير المقدور فيرتفع به ما هو مانع عن تعلّق التكليف به مع عدم حصوله وهو التكليف بغير المقدور ، والمفروض خلوّ المقام عن ذلك ، وكأنّ النكتة الباعثة على الفرق بين مقامنا هذا وما تقدّم في مسألة وجوب السعي في تحصيل الطهارة المائيّة بأيّ نحو اتّفق بورود النصّ فيه بلوازم البذل دون مقامنا هذا ، فإنّ مصلحة الواجب فيه لكونه راجعة إلى المكلّف نفسه فحكمته البالغة تقتضي الرأفة على ما

__________________

(١) هنا قد زالت بعض الكلمات في نسخة الأصل ومن ثمّ علّمنا مواضعه بالعلامة ( ... ).

١١٨

هو من لوازم الأمر الغير المقدور الموجب لحصوله قهرا إيصالا لتلك المصلحة إليه ، نظرا إلى تعلّق غرضه تعالى بتكميله ورفعه إلى مراتب الكمال بخلاف مقامنا ، لما عرفت مرارا فإنّ غاية ما يصل فيه إلى المكلّف إنّما هو الثواب وهو لازم مشترك بينه وبين ما تقدّم.

وممّا يرشد إلى أنّ ما ذكر من الصفة النفسيّة أمر غير مقدور أنّ الرضاء النفساني الّذي هو عينها أو قريب منها لم يرد به أنّه في الشرعيّات ولا العرفيّات بل ربّما يعدّ الأمر به في نظر العقلاء مستهجنا.

هذا ولا يقاس ذلك في المقام على ما ثبت من وجوب البذل في مواضع الحسبة كحفظ النفس المحترمة المشرفة على الهلاك المتوقّف على صرف المؤونة مع كون الوجوب فيه كفائيّا ، لأنّ المكلّف في بذله هناك مخيّر بين التبرّع وقصد الاسترداد.

ولا ريب أنّ الاسترداد من الدواعي النفسانيّة الباعثة على حصول الأمر النفساني ، فالتكليف به حقيقة تكليف بما هو في حكم المقدور أو بلوازمه المقدورة أيضا.

ولا يخفى أنّ مثل ذلك لا يجري في المقام ، إذ المفروض أنّ الميّت لم يترك شيئا يستردّ منه المبذول له ، وإلاّ كان المتعيّن التوصّل إلى الواجب بما تركه ولم يكن الحاجة ماسّة إلى البذل.

نعم لو فرض أنّه ترك شيئا ولكن كان موته في موضع تعذّر فيه الوصول إليه لا نضائق الالتزام بوجوب البذل بقصد الاسترداد ، لتناول أدلّة الحسبة له أيضا لكن مفروض المقام ليس من هذا الباب.

فإن قلت : إنّ الاسترداد المعتبر قصده في مواضع الحسبة أعمّ من الاسترداد عن بيت المال أو عن المحلّ إن كان موسرا ولو في الآجل ، وهذا المعنى كما ترى يجري في المقام أيضا ، فإنّ المكلّف هنا يبذل من ماله الكفن وسائر لوازم الميّت بقصد الاسترداد عن بيت المال.

قلت : إن كان فرض موته في موضع وجود بيت المال كان المتعيّن صرف لوازمه منه ، لأنّه مال عيّن لمصالح المسلمين وهو منها بل العمدة منها ، كما يظهر من طريقة الشارع في زيادة اهتمامه بأمر الأموات ، فلذا قدّم مصارف تجهيز الميّت من تركته على ديونه ووصاياه وتوريث ورثته في صورة انحصار تركته فيما يكفي لوازمه ولا حاجة معه إلى إلزام الغير بالبذل ، ولذا صرّح الأصحاب بوجوب البذل من بيت المال إن كان موجودا مع اتّفاقهم على عدم وجوبه على المسلمين ، وإن كان في موضع عدم وجوده ففرض الاسترداد منه محال ،

١١٩

مع أنّ ثمرة البحث إنّما تظهر في تلك الصورة.

ولكنّ الانصاف أنّ عدم مقدوريّة الوصف النفساني هنا لا يمنع عن تعلّق التكليف به ، لأنّ متعلّق التكليف لا بدّ وأن يكون بنفسه مقدورا أو منتهيا إلى المقدور ، وهذا الوصف وإن كان بنفسه غير مقدور ولكنّه يرجع بالأخرة إلى ما هو مقدور ، وهو النظر والتأمّل فيما يوجب تحقّق دواعيه النفسانيّة من زيادة في المال أو بركة في الرزق والعمر أو طمع في الاشتهار ونحوه ، إذا علم المكلّف أنّ الإقدام على هذا العمل ممّا يوجب هذه الامور ويترتّب عليه تلك الفوائد ، ولا ريب أنّ النظر [ والتأمّل ] مقدوران فلا مانع من التكليف بما هو مسبّب عنهما لمقدوريّة سببهما كما هو الحال في التوليديّات ، ومن هذا الباب الأمر بأعمال القلب من المحبّة والبغض والاعتقادات ، فهذه وإن كانت امورا غير مقدورة ولكنّها تنتهي إلى المقدور وهو النظر والتأمّل فيما يوجبها عن الأسباب والمقتضيات.

وأمّا الثالث فبأن يقال : على تقدير كون البذل أمرا اختياريّا أو راجعا إلى الاختيار ـ نظرا إلى أنّ التكليف بشيء لا يرجع إلى الاختيار قبيح لا مطلقا ـ أنّ الأمر بتغسيل الموتى وتكفينهم مشروط بوجوب ما يكفيهم في تحصيل الكفن والخليطين فعلا ، سواء كان من تركته أو من بذل باذل له ، فلو حصل ذلك الشرط يجب على المسلمين كفاية الإقدام على العمل من التغسيل بالخليطين والتكفين ومع عدمه فلا شيء عليهم بالنسبة اليهما ، بل دفن عريانا بعد تغسيله مرّة بالماء القراح كما عليه بعض الأصحاب ، وأمّا ما عليه البعض الآخر من وجوب ثلاث أغسال بالقراح فوارد على خلاف التحقيق ، لأنّ ما زاد على الغسل الواحد كان وجوبه مشروطا بما لم يحصل الشرط ، ووجوده من حيث الصحّة مقيّدا بما لم يحصل معه ، وظاهر أنّ انتفاء الشرط ممّا يقضي بانتفاء المشروط ، فلا أمر بالقياس إلى ما زاد ليجب امتثاله.

والاحتجاج عليه : « بأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » ونحو ذلك في غير محلّه.

والّذي يكشف عمّا ذكرناه من اشتراط الوجوب بما ذكر اجماعهم على عدم وجوب البذل على المسلمين مع الفقدان ، مضافا إلى ما في التهذيب عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن الفضل بن يونس الكاتب قال : « سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام فقلت له : ما ترى في رجل من أصحابنا يموت ولم يترك ما يكفّن به أيشتري له كفنه من الزكاة؟

١٢٠