أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ أقصى ما يقتضيه بناء العرف كون النيّة شرطا في المأمور به معتبرا في وصفه العنواني ولا ملازمة بينه وبين كون الغاية المقصودة منه حصول التقرّب ، لجواز أن يكون هنا غاية اخرى منوطة في نظر الآمر باقتران العمل بالقصد والنيّة ، ولا ينافيه كون حصول التقرّب أيضا من الفوائد المترتّبة على القصد والنيّة ، إذ لا ملازمة بين مطلق الفائدة والفائدة المقصودة والعبرة في الغايات بالثاني دون الأوّل.
ويمكن الذبّ بجعل « اللام » في قولنا : « لأجل التقرّب » كاللام في قوله تعالى : ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً )(١) بتقريب : أنّ الفائدة تشبه العلّة الغائيّة في ترتّبها على الفعل.
إلاّ أنّه يشكل ذلك أيضا : بأنّ العلّة الغائيّة الداعية إلى الأمر قد تكون حصول التقرّب لا غير فلا يستقيم الضابط إلاّ بحمل متعلّق « اللام » على ما يعمّ المشبّه والمشبّه به معا ، ولعلّه غير صحيح لعدم معقوليّة [ جامع ] بينهما يراد من اللفظ حذرا من الاستعمال في معنيين ، إلاّ بأن يقدّر الفائدة المطلقة فردا من العلّة الغائيّة ادّعاء فيراد من مدخول اللام العلّة الغائيّة على نحو يتناول فردها الادّعائي أيضا ليشمل كلاّ ممّا يكون علّته الغائيّة حصول التقرّب وما يكون علّته غير ذلك.
وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ قاعدة الاشتغال لكونها من الاصول العمليّة غير متعرّضة لإحراز الواقع ، وقضيّة الضابط ثبوت اعتبار القصد والنيّة في الواقع بعنوان القطع فلا ملازمة أيضا.
ومن هنا يتبيّن أنّ هذا الضابط لو اعتبرناه تعريفا حقيقيّا كان مختلاّ بانتقاض عكسه بالنسبة إلى ما ثبت اعتبار النيّة فيه بقاعدة الاشتغال ، كما أنّه مختلّ أيضا على مذهب من يجعل المعيار في العبادة عدم معلوميّة انحصار المصلحة فيها كما لا يخفى.
ومنها : ما يعمّ الواجبات التعبّديّة والمندوبات ، وضابطه الكلّي ـ على ما في كلام غير واحد ـ ما احتاج صحّته إلى النيّة ، ويقابله المعاملة وهو ما لا يحتاج صحّته إلى النيّة ، ويندرج فيه الواجبات التوصّليّة وغيرها من أنواع العقود والإيقاعات ما عدا الوقف والعتق ، فإنّهما بحسب الوضع الشرعي وإن كانا من قسم العقود كالأوّل والإيقاعات كالثاني إلاّ أنّهما لاشتراط نيّة القربة في صحّتهما يندرجان في العبادة لصدق الضابط المذكور عليهما ، وفي اندراج وقف الكافر وعتقه ـ على القول بصحّتهما منه لإمكان تحقّق النيّة منه ـ فيها أيضا وعدمه وجهان ، من أنّ المراد بالنيّة المأخوذة فيها خصوص النيّة المؤثّرة فيخرجان
__________________
(١) القصص : ٨.