وأنت خبير بأنّ هذا غفلة عن فهم مراده من ارتكاب هذا التوجيه ، فإنّ غرضه هنالك إرجاع التأويل إلى النهي المفروض بصرفه عن معنى الطلب إلى حمله على الإرشاد وهو مجرّد بيان قلّة الثواب ، وهذا معنى آخر من معاني الصيغة أمرا ونهيا فيكون النهي المحمول على الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب كالأمر الإرشادي لمجرّد بيان الواقع خاليا عن الطلب ، فالإيراد عليه بنحو ما ذكر ليس على ما ينبغي.
وأمّا شبهة اجتماع الضدّين فسيأتي ما يدفعها.
ثمّ إنّ للسيّد كلاما طارفا (١) أورده على القول بالبطلان الّذي صرّح به الفاضل المتقدّم ذكره ومن وافقه فيما لا دليل على صحّته وهو : « أنّ تعلّق النهي التنزيهي حقيقة بالعبادة مع القول ببطلانها ممّا لا معنى له ، لأنّ من قال بالبطلان إنّما قال به هربا من التكليف بالمحال واجتماع الرجحان والمرجوحيّة في فعل شخص واحد وفي تركه أيضا ، والقول بتعلّق النهي التنزيهيّ بها مستلزم للعود إلى المهروب عنه ، لأنّ معنى هذا النهي رجحان الترك مع جواز الفعل شرعا وعدم العقاب عليه ، وحينئذ ينتظم قياس هكذا : هذا الّذي نهي عنه تنزيها عبادة جائزة شرعا ـ أمّا كونه عبادة فللفرض وأمّا كونها جائزة فلكون النهي عنه تنزيها ـ وكلّ عبادة جائزة إمّا أن يثاب على فعلها ويعاقب على تركها ، أو يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها ، فهي إمّا واجبة أو مندوبة ، فتكون مطلوب الفعل والترك وراجحة ومرجوحة ، والقول بأنّها لا يثاب عليها قول بعدم كونها عبادة بل بدعة محرّمة » إلى آخره.
وهذا الكلام كما ترى وارد على سبيل المغالطة مبنيّ على الغفلة عن حقيقة الحال لتطرّق المنع إلى صغرى القياس ، فإنّ الجواز في كلّ شيء إنّما يعتبر على حسبما يقتضيه المقتضي للجواز فيه وهو في العبادات مشروط بورود أمر بها إيجابا أو ندبا ، والنهي التنزيهيّ إنّما يقتضي الجواز في متعلّقه إذا لم ينشأ منه ما يرفع المقتضي للجواز من لزوم التكليف بالمحال أو اجتماع المتضادّين أو غيره من المحاذير ، وهو في العبادات في زعم القائلين بالبطلان مستلزم لهذه المحاذير ، فعدم الجواز حينئذ ليس من مقتضى هذا النهي من حيث إنّه هذا النهي حتّى يقال : بأنّه تنزيهي لا ينافي الجواز بل هو مقتض له ، بل هو من مقتضى انتفاء المقتضي للجواز المستند إلى المحاذير الناشئة من النهي على تقدير بقاء ذلك المقتضي من الأمر الإيجابي أو الندبي ، وظاهر أنّ العبادة حيثما ارتفع عنها الأمر بكلا
__________________
(١) في التحرير الأوّل من التعليقة : « لطيفا » بدل « طارفا ».