السابق على الوجوب لوجود المقتضي وفقد المانع.
قلنا : دليل الحكم السابق قد بطل بدليل الوجوب ، كما أنّ دليل الوجوب يبطل بدليل النسخ ومعه لا يصلح مقتضيا لعود مدلوله ، إلاّ أن يفرض ذلك في نحو ما لو ورد في الخطاب من قوله : « أكرم العلماء » المفيد باعتبار الوضع العموم الأفرادي وباعتبار إطلاق الحكم بالنسبة إلى وجوب إكرام كلّ فرد العموم الأزماني ، على معنى دوام الحكم واستمراره إلى يوم القيام ، وعمل بعمومه ثمّ نسخه بالنسبة إلى زيد العالم مثلا بقوله : « لا تكرم زيدا » ثمّ نسخ الحرمة أيضا بعد برهة من الزمان بقوله : « نسخت الحرمة أو رفعتها » فإنّ قضيّة العامّ بعد انضمام الناسخ الثاني إليه بقاء وجوب إكرامه تحت عمومه الأزماني وهو المراد من العود ، لأنّ الناسخ الثاني يكشف عن أنّ القدر المخرج من هذا العموم بمقتضى الناسخ الأوّل إنّما هو ما بينه إلى ورود الناسخ الثاني ، ومرجعه إلى انكشاف دخول ما بعد المقدار المذكور في المراد من إطلاق الحكم كما أنّ ما قبله كان داخلا فيه.
ولك إجراء هذا الكلام في مسألة نسخ وجوب الصدقة قبل النجوى ، نظرا إلى عمومات استحبابها المتناولة لهذا الفرد منها قبل عروض الوجوب لها مع وضوح استحبابه بعد نسخ الوجوب أيضا وليس هذا إلاّ من مقتضى العمومات المذكورة ثمّ يتسرّى هذا الفرض أيضا إلى ما لو انحصر عموم الخطاب الأوّل المثبت للحكم الخاصّ السابق على الأمر في العموم الأزماني ، كما لو قال الشارع : « يستحبّ غسل الجمعة » ثمّ قال بعد برهة من الزمان : « أوجبت غسل الجمعة » ثمّ قال بعد مدّة : « نسخت الوجوب » فإنّه يكشف عن أنّ القدر المخرج من عموم الخطاب الأوّل بالنسبة إلى الأزمان إنّما هو ما بين ورود دليل الوجوب إلى زمان وروده.
وهذا هو معنى ما تقدّم من أنّ رجوع الحكم السابق على الأمر لا يحتاج إلى دليل آخر لكفاية الدليل الأوّل ، وإنّما المحتاج إلى الدليل رفع المانع والمفروض وروده وهو ناسخ الوجوب فيعود الحكم السابق لوجود المقتضي وفقد المانع.
وما ذكرناه في دفعه من أنّ دليل الحكم السابق قد بطل بدليل الوجوب ، فيزيّفه : أنّ بطلان هذا الدليل إن اريد به بطلان سنده فهو غير صحيح ، لمكان كونه قطعيّ الصدور كما في الآيات القرآنيّة الّتي نسخت أحكامها مع بقاء تلاوتها ، وإن اريد بطلان دلالته فإطلاقه غير مسلّم بالنسبة إلى عموم الدليل من حيث الأزمان ، بل القدر المسلّم ممّا بطل من هذا العموم وخرج من العامّ إنّما هو زمان الوجوب لا ما قبله ولا ما بعده.