فالأقوى إذن ما اختاره المصنّف من الرجوع إلى الحكم الّذي كان قبل الأمر ، ولكن هذا مقصور على ما لو كان للواقعة قبل ورود الأمر بها حكم خاصّ من الأحكام الأربع الباقية غير الوجوب ، وأمّا ما عداه ممّا كان حكمه الأوّل الثابت في صدر الإسلام هو الوجوب فهل يندرج الواقعة فيه بعد نسخ الوجوب ـ على القول بعدم بقاء الجواز ـ في عنوان مسألة الحظر والإباحة أو في عنوان مسألة البراءة والإباحة؟ احتمالان أظهرهما الأوّل.
والفرق بينهما أنّ مسألة الحظر والإباحة مفروضة فيما لا حكم فيه من الشرع أصلا ، ولذا جعل موضوعها الأشياء الغير الضروريّة قبل الشرع ، فحصل النزاع في أنّه هل لها في الظاهر حكم من العقل بحظر أو إباحة أو لا؟ ويعبّر عن هذا الحكم على القول بثبوته بالحكم العقلي ، ومسألة البراءة والإباحة المقابلتين للوجوب والتحريم في الشبهات الحكميّة الوجوبيّة أو التحريميّة مفروضة فيما ثبت له من الشرع حكم بالخصوص وجهل ذلك الحكم مردّدا بين كونه الوجوب أو خلافه والتحريم أو خلافه ، فحصل النزاع في حكمه الثانوي العامّ الثابت له المستفاد من ظواهر الأدلّة الشرعيّة كتابا وسنّة وعقلا ، ولذا اخذ موضوعه ما لم يعلم حكمه بالخصوص من حيث هو كذلك.
ووجه أظهريّة اندراج الواقعة بعد نسخ الوجوب في عنوان المسألة الاولى أنّ المفروض عدم ثبوت حكم خاصّ لها قبل الأمر مع فرض عدم اقتضاء نسخ الحكم بدليّة حكم آخر عنه ، فالمتّجه دخولها حينئذ في عنوان « ما لا حكم فيه من الشرع أصلا » كما جزم به المحقّق المتقدّم وإن كان إطلاقه غير سديد كما عرفت ، لا في عنوان « ما جهل حكمه » لأنّه فرع الدلالة على أنّ لها بعد نسخ الوجوب حكما خاصّا من الشارع مردّدا بين الحرمة وغيرها ممّا عدا الوجوب ، والمفروض عدم قيام الدلالة عليه ، وعلى فرض قيامها في بعض الموارد فهو خارج عن المبحث.
لا يقال : الدليل على ذلك العمومات القاضية بأنّ لكلّ شيء حكما حتّى الأرش في الخدش ، والأدلّة الدالّة على أنّ الوقائع غير خالية عن حكم من الأحكام من الضرورة والإجماع ونحوه.
لأنّا نقول : إنّما يكفي في صدق هذه العمومات والعمل بعمومها بالنسبة إلى هذه الواقعة ثبوت الحكم الوجوبي المفروض ارتفاعه بالنسخ ، فإنّ مفادها ثبوت حكم في كلّ شيء على وجه القضيّة المهملة الصادقة على الجزئيّة أيضا ، فلا يلزم من عدم التزام قيام حكم آخر مقامه تخصيص في هذه العمومات ، فبعد ثبوت اندراجها في عنوان « ما لا حكم فيه