وإلى ذلك ينادي مثالهم المعروف من أنّ السيّد إذا قال لعبده : « أمرتك أن تخيط هذا الثوب أو تبني هذا الحائط في هذا اليوم أيّهما فعلت اكتفيت به ، وإن تركت الجميع عاقبتك ، ولست آمرك أن تجمع بينهما بل أمرتك أن تفعل واحدا منهما لا بعينه ».
وفي بيان المختصر عند تصحيح هذا المقال : « أنّ هذا الكلام معقول ولا يمكن أن يقال لم يكن مأمورا بشيء لأنّ غرضه العقاب بترك الجميع ، ولا يمكن أن يقال الجميع مأمور به فإنّه صرّح بنقيضه ، ولا واحد بعينه لأنّه صرّح بالتخيير ، فلا يبقى إلاّ أن يقال : المأمور به واحد لا بعينه » فإنّه إن لم يكن نصّا ظاهر فيما قرّرناه من أنّ الممنوع والمبغوض ترك الجميع ، فيكون الواجب أحدهما مع الخصوصيّة لا على التعيين ، ولا يتّجه ذلك إلاّ إذا لوحظ كلّ منهما بالخصوص حال عدم حصول الآخر ، لمكان التنصيص بـ « لست آمرك أن تجمع بينهما » فقولهم : « لا بعينه » وصف للواجب لا أنّه قيد لما حصل له وصف الوجوب وشرط فيه ، بمعنى أنّ الواجب شيء لم يعتبر فيه تعيين كما في الواجب المعيّن لا أنّه شيء بشرط عدم التعيين.
وأقوى ما يرشد إليه أيضا ما ذكره الحاجبي عند دفع اعتراض المعتزلة على الأشاعرة في مقالتهم بأنّ غير المعيّن مجهول ويستحيل وقوعه فلا يكلّف به ، من أنّه معيّن من حيث هو واجب وهو واحد من الثلاثة فينتفي الخصوص ، فصحّ إطلاق غير المعيّن عليه.
وحاصل مراده : أنّ واحدا من الثلاثة له اعتبارات ثلاث :
أحدها : الواحد بشرط التعيين.
وثانيها : الواحد بشرط عدم التعيين.
وثالثها : الواحد لا بشرط التعيين ولا بشرط عدم التعيين.
والأوّل باطل لمنافاته قضيّة التخيير ، والاعتراض إنّما يتّجه لو كان الواجب الواحد باعتباره الثاني وليس بمراد في المقام ، فتعيّن الواحد بالاعتبار الثالث وهو لكونه لم يعتبر فيه تعيين من جهة إلغاء خصوصيّته المتشخّصة حين الإيجاب صحّ وصفه بغير المعيّن ، ووصفه بغير المعيّن من جهة عدم اعتبار تعيين فيه لا ينافي كونه معيّنا في حدّ ذاته من جهة كونه بالخصوص محلاّ للوجوب لا باعتبار المفهوم المشترك بينه وبين غيره من الثلاثة ، ولكونه لم يعتبر فيه عدم التعيين صحّ تعلّق التكليف به.
وعلى هذا فلا وقع لما أورده بعض الفضلاء على أصحاب تلك المقالة بقوله : « من قال بأنّ الواجب في صورة التخيير هو أحد الامور إن أراد به مصداقا لا بعينه.