تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقى لَهُما) موسى .. فقد انتهى به السير إلى بئر ، فوجد عنده جماعة من الرعاء يستقون منها لماشيتهم ، ورأى امرأتين في ناحية عن جماعة الرعاء ، ومعهما غنيمات تحاول أن ترد الماء ، والمرأتان تصرفانها عنه .. أثار هذا المنظر انتباه موسى ، وقال لهما : لما ذا تمنعان غنمكما عن الماء ، وهي عطاشى؟ فقالتا : نحن نسوة ضعاف ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، وأبونا شيخ كبير يعجز عن الرعي والسقي ، فننتظر حتى يفرغ الرعاء فنستقي ، فتحركت في نفس موسى نخوة الدين والانسانية وسقى لهما.
ولا عجب إذا أنجد موسى نسوة ضعافا ، فقد ينجد المرأة الضعيفة الكافر والشقي ، وأيضا لا عجب أن يعيش شعيب وبناته من كد اليمين وعرق الجبين ، فهذه هي سيرة الأنبياء وخلفائهم الأتقياء من قبل ومن بعد ، وإنما العجب أن لا يكون لهذه الروح القرآنية أي أثر في نفوسنا نحن الذين ندعي العلم بالله وكتابه وسيرة أنبيائه .. وأعجب العجب أن نتسابق ونتنافس في طلب الدنيا ومظاهرها.
(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). سقى موسى غنم الفتاتين ، وذهب الى شجرة يتفيأ ظلالها ، وكان قد أنهكه وأعياه التعب والجوع ، فسأل الله من فضله وكرمه ، ولم يبالغ ويلح في المسألة لأن المطلوب سد الخلة وكفى ، ولو طلب الآخرة لبالغ وألح ، وفي نهج البلاغة : والله ما سأله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، وقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه. الصفاق الجلد الأسفل ، والتشذب انهضام اللحم.
(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا). رجعت الفتاتان إلى أبيهما ، وأخبرتاه بما كان ، فقال لواحدة منهما : اذهبي وادعيه لنجزيه على إحسانه ، فجاءته الفتاة يكسوها الحياء والخجل ، والطهر والعفاف ، وقالت له ما قال أبوها (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). استجاب موسى للدعوة ، ورحب به الشيخ وشكره على صنيعه ، ولما طابت نفس موسى واطمأنت الى الشيخ حدثه بما جرى