(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ). تطلق القرية على المدينة وعلى بلدة ريفية ، وشرح بعض المفسرين الجدد هذه الآية بقوله : فهي تعرف ان من طبيعة الملوك إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد ، وحطموا الرؤساء وجعلوهم أذلة ، وهذا هو دأبهم الذي يفعلونه.
والحق ان الفساد ينتشر في الأرض بمقدار ما للمجرمين من قوة ، ويتضاعف كلما تضاعفت مقدرتهم عليه ملوكا كانوا أو غير ملوك ، وإنما خصت الآية الملوك بالذكر لأنهم أقوى وأقدر من غيرهم .. إن شخصية المجرم تختفي وراء ضعفه ، وتظهر مع قوته .. فمن الخطأ أن نحدد شخصية الضعيف من خلال تصرفاته .. فقد اشتهر البعض في زماننا بالتقى والصلاح قبل أن يتولى الرئاسة ، ولما أخذ نصيبه منها التصقت به تهم لا تمحوها الأيام .. نسأل الله الهداية لنا وله.
وبهذا يتبين معنا ان صفة الفساد لا تختص بالملوك ، ولا هي من طبيعتهم ، وإلا استحال وجود العدل والصلاح فيهم ، وانما هي من طبيعة القوي المجرم ، سواء أجاءت قوته من المال أو الجسم أو العقل أو من منصب زمني أو ديني : ولا رادع للمجرم القوي إلا الدين. قال الإمام علي (ع) : قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ، ودونه مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين. الحوّل القلّب هو البصير بتحويل الأمور وتقلّبها ، والحريجة التحرز من الإثم.
(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ). أرجع الوزراء والمستشارون الى الملكة أمر السلم والحرب ، وقبل أن تبت بشيء رأت أن ترسل الى سليمان هدية ، فيها كل غال وثمين ، ثم تنظر هل يقبلها أو يرفضها؟ فإن قبلها فهو طالب دنيا ، لا طالب دين ، يمكن مصانعته بالمال ، وان رفض الهدية وأصر على أن نأتيه مسلمين فهو من أصحاب المبادئ والرسالات الذين لا يساومون