والنصارى. والجدال بالحسنى أن يكون بالحجة والدليل في أسلوب مبشّر غير منفر ، وواضح لا تعقيد فيه ولا تكلف مع إنصاف المناظر في الاستماع الى ما يريد ، والاعتراف له بما هو محق فيه ، سواء أكان من أهل الكتاب ، أم من غيرهم ، وأوضح مثال على ذلك قوله تعالى للمشركين الذين قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) ـ ٢٤ الزخرف. فهذا الرفق والتلطف في قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى) يدعم الحجة ويشفع لها عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. وانما خص سبحانه أهل الكتاب بالذكر لأن المفروض فيهم أن يتقبلوا الحق أكثر من المشركين لايمانهم بالله وملائكته ، وكتبه وأنبيائه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم الذين عاندوا الحق ، وأصروا على الضلال لا يرتدعون بحال ، فعليكم أن تدعوا هذا النوع من أهل الكتاب ، ولا تجادلوهم في الدين على الإطلاق.
ومن تتبع آي الذكر الحكيم التي جادلت المنكرين والمبطلين يرى ان المنهج الجدلي في القرآن يقوم على حرية العقل وإطلاقه في جميع الآفاق والميادين .. وتتجلى هذه الحرية حين يقدم القرآن الدليل القاطع على صحة دعوته ووجوب الايمان بها : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ـ ٥٣ فصلت. وأيضا تظهر هذه الحرية حين يطالب القرآن المنكرين ان يبرروا موقفهم بالدليل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ١١١ البقرة. (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ٤ الأحقاف. (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ـ ٣٣ الفرقان.
هذا هو الجدل القرآني في حقيقته وواقعه : اقامة الحجة على الدعوى بما تستدعيه طبيعتها في نظر العقل ، وطلب الحجة ممن جحد وعاند ، ورده بحجة أبلغ وأقوى ان كان لديه اثارة من شبهه أو دليل ، وقد ظهر هذا المنهج القرآني في أساليب شتى :
«منها» : الاكتفاء ببيان حقيقة الشيء وتحليل معناه ، وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب للرد على عبدة الأصنام ونفي الربوبية عنها ، حيث أوضح انها عاجزة عن أتفه الأشياء : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا