الإطلاق مع إرادة التقييد ارتكاب لخلاف الظاهر ، فكذلك إيراد ما ظاهره التقييد مع إرادة الإطلاق مصير إلى خلاف الظاهر ، والكلام المشتمل على أداة الغاية ظاهره التقييد وهو منطوق الكلام ، وفرض عدم الانتفاء عمّا بعد الغاية مفض إلى إرادة الإطلاق وهو خلاف المنطوق الّذي هو المقيّد ، فيكون التصريح بعدم إرادة المفهوم تنبيها على رفع اليد عن هذا الظاهر الّذي هو المقيّد ، وهو لا يوجب المجاز بل يوجب كون المراد المطلق في موضع المقيّد.
ومن الأعاظم من احتجّ ـ مضافا إلى التبادر وما سبق في كلام المصنّف ـ بقبح الاستفهام فيما لو قال لعبده : « لا تعط زيدا حتّى تقوم ».
وفيه : منع واضح ، فإنّ الاستفهام إنّما يصحّ في موضع الاحتمال ولو مرجوحا ، ولا ريب أنّ قول القائل : « سر من البصرة إلى الكوفة » موضع احتمال أن يريد منه مثل ما يراد في « سرت من البصرة إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الحلّة ، ومن الحلّة إلى بغداد » وهكذا فيصحّ الاستفهام عن حقيقة الحال لرفع هذا الاحتمال ، وهكذا يقال في مثل « لا تعط زيدا حتّى يقوم »
ومن الفضلاء من احتجّ فيما وافق القائلين بإثبات الدلالة : « بأنّ المفهوم من قول القائل : « صم إلى الليل » انقطاع الصوم المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية من أوّل الليل أو آخره ، إذ لو فرض بقاؤه بعدها لم يكن ما فرض غاية غاية ، إذ غاية الشيء ما ينتهي عنده الشيء وهو خلاف ظاهر المنطوق.
وتحقيق ذلك : أنّ توابع الفعل من متعلّقاته هي قيود لمدلول مادّته ، فمعنى « صم إلى الليل » طلب إمساك مقيّد بكون نهايته الليل ، فلو أنّ المطلوب إنّما هو إمساك ما زاد عليه لم يكن الإمساك إلى الليل مطلوبا لنفسه ، وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، فلا بدّ حينئذ إمّا من حمل الأمر على الطلب الغيري وهو عندنا وإن كان حقيقة إلاّ أنّه خلاف الظاهر من الإطلاق ، أو حمل الليل على الجزء المتأخّر عنه ، أو معنى آخر حيث يصحّ ، أو ارتكاب التجوّز في « إلى » بحملها على معنى بلوغ الفعل المطلوب إلى الليل سواء انقطع عنده أو لا.
وكيف كان فهو يستدعي مخالفة أصل من تقدير أو تجوّز أو خروج عن الظاهر ، فقول القائل : « سر إلى البصرة ومنها إلى الكوفة ومنها إلى مكّة » إن جعل كلّ سير تكليفا برأسه فلا إشكال ، وإلاّ تعيّن فيه أحد الوجوه المذكورة » إلى آخره (١).
وأصل هذا الاحتجاج مستقيم ولكن على تقدير كون المراد بالحكم المتنازع في
__________________
(١) الفصول : ١٥٤.