فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، لا ما ذهب اليه الناس ، ألا تسمع الله عز وجل يقول : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى).
وتسأل : كيف حكم داود للمدعي من غير بينة مع ان الأنبياء معصومون عن الخطأ والخطيئة؟.
الجواب : ليس معنى العصمة ان للمعصوم طبيعة غير طبيعة الناس بخصائصها وغرائزها .. كلا ، ان هو إلا بشر ، وانما معنى العصمة ان الله سبحانه يلطف بالمعصوم ، ولا يتخلى عنه إطلاقا ، فإذا حاول ـ مثلا ـ أن يخدعه انسان بحسن مظهره أرشده الله إلى حقيقته قبل أن يقع في الشباك ، وهذا ما حدث بالفعل لداود .. خدعه صاحب النعجة الواحدة بأسلوبه الذي يثير الإشفاق والرحمة فحكم له ، ولكن الله ألهمه الحقيقة قبل تنفيذ الحكم فاستدرك وأناب.
وقريب من هذا ما حدث لرسول الله (ص) مع سارق ادعى براءته ، وكاد الرسول الأعظم ينخدع لولا أن ثبته الله بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ـ أي لا تخاصم عن الخائنين ـ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) ـ ١٠٦ النساء ج ٢ ص ٤٢٩. وقال تعالى مخاطبا نبيه الكريم محمدا (ص) : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) ـ ٧٤ الإسراء. وفي الحديث الشريف : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ، وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له شيئا من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار. وهذا الحديث لا ينطبق تماما على ما نحن فيه ، ولكن يمكن الاستئناس به. أما توبة الأنبياء واستغفارهم من الذنوب فهي ضرب من العبادة والتواضع لله سبحانه. وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة.