قسّمنا مراحل السفر بين القرية والقرية بحيث يصبح المسافر في واحدة منها ، ويمسي في أخرى .. والآية تصف قوم سبأ قبل خراب السد ، ومعناها ان من نعم الله وفضله عليهم ان أحدهم كان إذا قصد سفرا يسافر وهو في أمن وأمان من كل شيء ، لا يخشى أحدا على نفسه وماله ، ولا يحمل زادا ، ولا يخاف جوعا ولا عطشا.
ولكن غلبت عليهم شقوتهم ، وبطروا النعمة ، وملوا العافية (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) اجعل بيننا وبين القرى فلوات ومفاوز لنركب الرواحل ونحمل الزاد في الأسفار ، تماما كما فعل بنو إسرائيل حيث ملوا نعمة المن والسلوى ، وقالوا لموسى : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ـ ٦١ البقرة. (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالطغيان وكفران النعم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). شتتهم سبحانه ووزعهم في أقطار الأرض حتى صاروا أحدوثة للأجيال ، وعبرة لمن صبر على الضراء ، وشكر عند السراء.
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ). أغراهم الشيطان بمعصية الله ، فسمع له وأطاع من كفر وبغى ، وعصاه من آمن واتقى. وتشير هذه الآية الى قول إبليس في الآية ٣٩ من سورة الحجر : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ج ٤ ص ٤٧٨.
(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) ان الله سبحانه أعلم بعباده من أنفسهم ، ولكنه يبتليهم بالسراء والضراء ، وبالشهوات والأهواء لتظهر إلى عالم الوجود والعيان مقاصدهم وأفعالهم التي يستحقون عليها الثواب والعقاب.
وتكرر هذا المعنى مرات ومرات ، منها في الآية ١٤٠ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٦٤ (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ). لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وفي الحديث : اتق الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.