المعنى :
(الم) تقدم الكلام عنه في أول سورة البقرة (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ). فيما تقدم ذكرنا وجوها لاعجاز القرآن الكريم ، منها تحدي المنكرين بأن يأتوا بسورة من مثله ، ومنها عقيدته الإلهية ، وهدايته الى بواعث التقدم وأسبابه ، وشريعته الانسانية التي تفي بحاجات الناس في كل زمان ومكان ، وتقر من الشرائع الوضعية كل ما فيه صلاح للناس بجهة من الجهات ، مع العلم بأن الذي بلّغ القرآن لم يختلف الى معلم ، ومنها ان كلام القرآن يحمل وجوها كثيرة دون كلام الناس ، وقد اهتدينا ، ونحن نفسر آياته ، الى ان السر في ذلك يكمن في عظمة المتكلم وعلمه الذي لا يحد بشيء.
انظر ما قلناه عند تفسير الآية ٥٥ من سورة النور ، فقرة : وجه آخر لاعجاز القرآن.
ومن مظاهر إعجاز القرآن إخباره عما لا يطلع عليه إلا علّام الغيوب ، كالإخبار عما كان يضمره المنافقون في قلوبهم ، وعن انتصار النبي على أعدائه ، وظهور الإسلام على الدين كله ، وعن رجوع النبي إلى مكة منتصرا بعد إخراجه منها ، وعما يحدثه أصحابه من بعده ، وعن اليهود وطبيعتهم ، وعن انتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين من انتصار الفرس على الروم ، والآيات التي نحن بصددها تشير إلى هذه الحادثة التي أجمع عليها الرواة والمفسرون.
وملخصها ان فارس كانت على دين المجوسية ، لا كتاب لها كالمشركين ، وكانت الروم على دين النصارى ، والنصارى أهل كتاب كالمسلمين ، وفي عهد رسول الله (ص) وقعت الحرب بين فارس والروم بأذرعات وبصرى من أرض الشام ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم في الشرك سواء ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأن الطائفتين من أهل الكتاب ، وجاءت الأخبار بانتصار الفرس على الروم ، فشق ذلك على المسلمين ، وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين : ان الفرس الذين لا كتاب لهم غلبوا الروم أصحاب الكتاب ، وأنتم تزعمون انكم ستغلبون بالكتاب الذي انزل على نبيكم ، فنحن لا كتاب لنا ، وسنغلبكم كما غلب الفرس الروم ، فنزلت هذه الآيات ، وما