والثالث : أنه تعالى أضاف في الآية الغفران إلى نفسه فقال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) والذي يتعلق به من المغفرة ليس إلا مغفرة أصحاب الكبائر دون التائب وأصحاب الصغائر ، فإن التائب بتوبته قد أزال ما استحق من العقاب ، وكذلك صاحب الصغيرة باجتنابه الكبائر قد أزال عن نفسه ما استحق من العقوبة ، ولا حاجة بهما إلى من يزيل عنهما العقوبة ، والمغفرة إنما هو إزالة ما يستحق المرء من العقوبة ، ولا يتصور والحال ما قلناه إلا في صاحب الكبيرة دون من سواه.
والرابع : هو أن قوله : (يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) عام ، يتناول الصغائر والكبائر جميعا ، ألا ترى أن القائل إذا قال : ما في كيسي فهو لفلان عمّ جميع ما فيه وشمل ، حتى أن له أن يستثني أي قدر شاء ، فيجب القضاء بأنه تعالى يغفر ما دون الشرك صغيرا كان أو كبيرا.
والخامس : هو أن لفظة دون لا تستعمل إلا فيما قرب من الشيء دون ما بعد عنه ، ألا ترى أن القائل إذا قال : الألف فما دونه ليس يجوز أن يريد به الألف ، والشعيرة ، وإن كان يجوز أن يريد به الألف وتسع مائة أو ما يجري هذا المجرى.
فهذه هي الوجوه التي أوردوها في هذا الباب ، ونحن نجيب عن فصل من ذلك ، بعد أن نجيب عن الكل بجواب مقنع إن شاء الله تعالى.
اعلم أن مشايخنا رحمهمالله قالوا : إن الآية مجملة مفتقرة إلى البيان ، لأنه قال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ولم يبين من الذي يغفر له ، فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر ، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر ، فسقط احتجاجهم بالآية.
وإذا سئلنا عن بيانه في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] وعلى هذا قال الحسن البصري لما سئل عن هذه الآية : يا لكع ، أما سمعت بيانه في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، فهذا أحد ما نمنعهم به من الاستدلال بهذه الآية.
ووجه آخر ، هو أن أكثر ما في الآية تجويز أن يغفر الله تعالى ما دون الشرك على ما هو مقرر في العقل ، فلو خلينا وقضية العقل لكنا نجوز أن يغفر الله تعالى ما دون الشرك لمن يشاء إذا سمعنا هذه الآية ، غير أن عمومات الوعيد تنقلنا من التجويز إلى القطع على أن أصحاب الكبائر يفعل بهم ما يستحقونه ، وأنه تعالى لا يغفر لهم إلا