ومنهم : من لم يجوزه ، ثم افترقوا في علته ، فمنهم من قال : إنا لم نجوز على الله تعالى الكذب لأنه يدل على الجهل والحاجة ، أو لأنه قبيح ، والله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، وهم النجارية.
الكلام على النجارية :
ومنهم : من قال : لا يجوز عليه الكذب ، لأنه صادق لذاته. والكلام على النجارية في الوجه الأول ، هو أنه إذا جاز أن يفعل القديم تعالى سائر القبائح ولا يدل على الجهل والحاجة ، فما أنكرتم أن يفعل الكذب أيضا ولا يدل على الجهل والحاجة. وأما الكلام على من اعتل بالوجه الثاني فقد مضى ، لأنا قد بينا قدرته على ما لو فعله لكان قبيحا.
وأما الكلام على من قال إنه تعالى صادق لذاته ، فهو أن يقال : ما دليلكم على أنه تعالى صادق لذاته؟ فإن قالوا الدليل على ذلك أنه تعالى أخبر عن أشياء وكان كما أخبر. قلنا لهم : وما تلك الأشياء التي ذكرها؟ فإن قالوا : إخباره عن خلقه السموات والأرضين حيث قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) قلنا له : ما أنكرتم أنه لم يرد بذلك السموات والأرضين المخلوقة ، وإنما أراد بذلك السموات والأرضين التي لم يخلقها بعد ، فيكون كاذبا فيه تعالى عن ذلك.
وبعد ، فليس للصدق بكونه صادقا حال ، وإنما المرجع بذلك إلى أنه فاعل للصدق ، والقوم إذا جعلوه صادقا لذاته فكأنهم قد نفوا عنه الصدق أصلا.
وبعد ، فلو كان صادقا لذاته لكانت هذه الصفة ترجع إليه ، فما الذي يمنع أن يخبر بشيء ولا يكون كما أخبر عنه ، فإن هذا يرجع إلى الفعل لا إلى الذات ، ولسنا نلزمكم أكثر من تجويز هذا. ثم يقال لهم ، أليس الله تعالى آمرا لذاته عندكم ثم لا يمتنع أن يكون آمرا ببعض الأشياء ناهيا عن البعض ، فهلا جاز أن يكون صادقا لذاته وإن كان لا يمنع أن يكون صادقا في بعض الأشياء وكاذبا في البعض؟
ومما ألزمهم به مشايخنا هو أنه لو جاز أن يفعل بعض القبائح لجاز أن يفعل سائرها ، وهذا يوجب عليهم جواز أن يثيب الفراعنة بطاعات الأنبياء ، ويعاقب الأنبياء بذنوب الفراعنة ، فلا يحسن من العباد عبادته.
وعند هذا الإلزام تحزبوا حزبين وافترقوا فريقين :