أن نقول لهم : إنكم قد بلغتم في الجهالة إلى أقصى الغاية ، فإن القرآن يتقدم بعضه على بعض ، وما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديما ، إذ القديم هو ما لا يتقدمه غيره. يبين ذلك أن الهمزة في قوله : الحمد لله ، متقدمة على اللام ، واللام على الحاء ، وذلك مما لا يثبت معه القدم ، وهكذا الحال في جميع القرآن ، ولأنه سور مفصلة وآيات مقطعة ، له أول وآخر ، ونصف ، وربع ، وسدس ، وسبع ، وما يكون بهذا الوصف كيف يجوز أن يكون قديما.
وقد دل الله على ذلك في محكم كتابه فقال : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] والذكر هو القرآن ، بدليل قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)) [الحجر : ٩] فقد وصفه بأنه محدث ، ووصفه بأنه منزل ، والمنزل لا يكون إلا محدثا ، وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر ، لأنه قال : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فلو كان قديما لما احتاج إلى حافظ يحفظه.
ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] بيّن كونه مركبا من هذه الحروف ، وذلك دلالة حدوثه ، ثم وصفه بأنه كتاب أي ، مجتمع من كتب ، ومنه سميت الكتيبة كتيبة لاجتماعها ، وما كان مجتمعا لا يجوز أن يكون قديما ، ووصفه بأنه محكم ، والمحكم من صفات الأفعال ، وقال بعد ذلك : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ، وما يكون مفصلا كيف يجوز أن يكون قديما.
وأظهر من هذا كله قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] وصفه بأنه منزل أولا ، ثم قال : أحسن الحديث ، وصفه بالحسن ، والحسن من صفات الأفعال ، ووصفه بأنه حديث ، وهو والمحدث واحد ، فهذا صريح ما ادعيناه ، وسماه كتابا وذلك يدل على حدوثه كما تقدم ، وقال : متشابها ، أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز والدلالة على صدق من ظهر عليه ، وما هذا حاله لا بد من أن يكون محدثا ، فهذا هو الكلام على الصنف الأول.
إبطال أن كلام الله معنى قائم بذاته
وأما الكلام على من قال إن كلام الله معنى قائم بذاته ، فهو أن نقول : إن هذا دخول منكم في كل جهالة ، لأن الكلام الذي أثبتموه مما لا يعقل ولا طريق إليه ، وإثبات ما لا طريق إليه بفتح باب كل جهالة ، ويوجب عليكم تجويز المحالات ، نحو : أن تجوزوا أن يكون في المحل معان ولا طريق إليها ، وأن يكون في بدن الميت حياة