ثم يقال لهم : الآية وردت مورد التمدح ، ولا مدح في أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد مع اشتمالها على القبيح والحسن. يبين ذلك أن إذا كان ينفي عن خلقه اللعب بقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)) [الأنبياء : ١٦] فلأن ينفى عنه أفعال العباد وما فيها من فضيحة وشنيعة أولى.
وبعد ، فإن الخلق في التعارف إنما يجري على فعل وقع مطابقا للمصلحة ، ومعلوم أن أفعال العباد ليست كذلك فكيف تجعل مخلوقة.
(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) :
وربما يتعلقون بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] قالوا : ففي أفعال العباد ما يريده الله تعالى ، فيجب أن يكون فاعلا لها.
وجوابنا ، أن هذا كلام يقتضي كونه فاعلا لما يريده في الحال الذي يريده ، وهذا يوجب عليكم قدم العالم ، لاعتقادكم أنه تعالى مريد لذاته أو بإرادة قديمة. ومتى قلتم إنه تعالى إنما أراد فيما لم يزل أن يخلق العالم قلنا : ذلك نفي ، والإرادة لا تتعلق بالنفي على ما نبينه من بعد. وإن قلتم : إنه تعالى أراد فيما لم يزل أن يخلق العالم فيما لا يزال فلا يلزم قدم العالم قيل لكم : ولم لم يرد خلقه في الحال وهو مريد لذاته ، والمراد من فعله ، فيلزمهم قدم العالم على كل حال. ثم إننا نتأول الآية على وجه يوافق الدلالة العقلية ، فنقول : المراد به أنه فاعل لما يريد من فعل نفسه ، ولا يجوز غير هذا ، لأن الآية وردت مورد الامتداح ، لا مدح في أن يكون فاعلا لأفعال العبد وفيها القبائح والمناكير ، فهذه جملة الكلام في ذلك.
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) :
ومما يتعلقون به قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢]. قالوا ففي هذه الآية دلالة على أن جميع المصائب من جهة الله تعالى على ما نقوله ، وجوابنا أن الكتابة في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) راجعة إلى الأنفس لا إلى المصائب لأنها أقرب المذكورين ، والكتابة إنما ترجع إلى أقرب مذكور. فبين تعالى أنه قبل خلق الأنفس كان عالما بما يصير أمرهم إليه وتصيبهم من المصائب مكتوبا في اللوح المحفوظ ، فلا تعلق لكم بها ، وبعد فلو