معنى قولنا الموانع مرتفعة :
فإن قيل : ولم قلتم إن الموانع المعقولة مرتفعة؟ قلنا : لأن الموانع المعقولة من الرؤية ستة : الحجاب ، والرقة ، والكثافة ، والبصر المفرط ، وكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي ، وكون محله ينقض هذه الأوصاف ، وشيء منها لا يجوز على الله تعالى بحال من الأحوال.
وإنما قلنا إن الحجاب منع ، لأن المرئي إذا كان محجوبا لا يمكن إدراكه ، ومتى كان مكشوفا إدراكه. وهكذا الكلام في الرقة ، واللطافة والبعد المفرط ، وكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي ، لأن المرئي إذا كان ببعض هذه الأوصاف لا يمكن أن يدرك ، وإن لم يكن كذلك أمكن أن يدرك. وهكذا إذا كان محل المرئي ببعض هذه الأوصاف لأن اللون متى كان في محل محجوب أو رقيق أو لطيف أو بعيد ، أو كان محله في غير جهة محاذاة الرائي لم يمكن إدراكه ، ومتى لم يكن كذلك أمكن ، وبهذه الطريقة يعرف المنع مما ليس بمنع.
فإن قيل : كيف قلتم إن الحجاب منع عن الرؤية مع أنا نرى ما وراء الزجاج؟ قلنا : لا يمكن إنكار أن الحجاب منع ، ومن أنكر هذا فقد أنكر العيان وجحد الضرورة ، وأما ما ذكرته في الزجاج فإنا نرى ما وراءه لأن فيه خللا على طريق الانعراج ، ويختص بضرب من الصقالة والضياء فلا يحجب ما وراءه ، بل تحصل قاعدة الشعاع مع ما وراءه على وجه لا ساتر بينهما وبينه ، ولا ما يجري مجرى الساتر. وإنما قلنا : إن فيه خللا على طريق الانعراج ، لأنه إذا أملئ دهنا وشد رأسه وترك في الشمس فإنه يذهب ما فيه من الدهن ، فلو لا أن فيه خللا على ما قلناه ، وإلا لم يذهب. فلهذه العلة أمكن رؤية ما فيه ورؤية ما وراءه ، كما أمكن رؤية المكشوف.
فإن قيل : كيف قلتم إن الرقة منع عن الرؤية ، مع أن المحتضر يرى الملك ، والجن يرى بعضهم بعضا؟ قلنا : لأن الرقة لا تمنع بنفسها وإنما تمنع بغيرها وهو ضعف الشعاع وقلته ، والمحتضر إنما يرى الملك لأن شعاعه أقوى وأكبر ، وكذلك حال الجن.
فإن قيل : كيف قلتم إن اللطافة منع ، ومعلوم أن الجزء الواحد إذا انضم إليه غيره يدرك؟ قلنا : الجزء الواحد إذا انضم إليه غيره خرج عن كونه لطيفا بل هو كثيف ، فللكثافة تصح رؤيته.