تعالى الأعواض إلى المعوض على هذا الحد ، ونحن لا نجوز ذلك ، بل نقول : لا بد من أن يفرقه على الأوقات ، ويوصل إليه على حد يقع له الاعتداد به ، فأما أن يجمعه جميعا ويوفره عليه دفعة واحدة فإن ذلك لا يحسن ، فمن أين يقتضي ما ذكرتموه دوام العوض.
يبين ذلك ويوضحه ، أن سبيل العوض من جهة الله تعالى ليس هو سبيل قيم المتلفات حتى تعتبر المقابلة ، بل لا بد من أن يبلغ في الكثرة حدا لا تختلف أحوال العقلاء في اختيار الألم لمكانه ، وإذا كان الأمر بهذه الصفة فما من عاقل إلا ويستحسن بكمال عقله تحمل المشاق العظيمة لتلك المنافع ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟
شبهة الملاحدة في أصل الأعواض
وبعد ذلك شبهة تتعلق بها الملحدة في أصل الأعواض ويشنعون بها علينا.
وجملة ذلك ، هو أنهم قالوا : لو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب عوض كل معوض من جنس ما ألفه في الدنيا واعتاد الانتفاع به هاهنا ، وذلك يوجب أن يخلق الله تعالى لنا في الجنة من الأطعمة الشهية ما كنا ألفنا في دار الدنيا ، وأن يخلق للبهائم الحشائش والأتبان ، وذلك خلف من الكلام وخطل من القول ، إذ لا خطر لشيء من هذه الأشياء.
وجوابنا أن الشّنعة مما لا وجه له ، بل الواجب على العاقل أن ينظر فيعلم أن الله تعالى إذا آلمنا فلا بد من أن يضمن في مقابلته من الأعواض ما يوفى عليه ، وأن يكون له فيه غرض آخر وهو الاعتبار ، ليخرج بالعوض عن كونه ظلما ، وبالاعتبار عن كونه عبثا على ما ذكرناه في غير موضع.
ثم نقول لهم : ليس يجب في عوض كل معوض أن يكون من جنس ما ألفه واعتاد أكله والانتفاع به إذ لا وجه يوجب ، وفارق الحال في ذلك الحال في الثواب إنما يستحق بطريقة الترهيب والترغيب ولا يتصور إلا فيما يعتاد في دار الدنيا ، وليس كذلك العوض فليس يستحق بطريقة الترغيب ، وإن كان الأقرب أن يكون عوض المكلفين من جنس ما ألفوه وعوّدوا أكله على ما تقدم ، على أنه لا يمتنع أن يخلق الله تعالى للبهائم من الأتبان والحشائش ما نستحقه ، لأن قدرته تعالى أوسع من ذلك ولا إشكال في هذا ، وإن المشكل أن يقال في السباع الضارية وشهواتها متعلقة به في دار الدنيا أن يمكنها الله تعالى من افتراس بعضها لبعض ، فشهواتها مقصورة عليه ، وذلك