ثم يقال لهم : لا تعلق لكم بالظاهر لأن هذه الباءات إنما تدخل في الآلة كقولهم شيء برجلي ، وأجذب بيدي ، وكتبت بقلمي. وليس العلم بآلة فيما دخل فيه ، فلا يصح التعلق بظاهر الآية. وإذا عدلتم عن الظاهر فلستم بالتأويل أولى منا ، فنحمله على وجه آخر يوافق الدلالة العقلية ، فنقول : قوله عزوجل : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي وهو عالم به ، وقوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) أي ونحن عالمون به ، وقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أي معلوماته ، والعلم قد يستعمل في العالم مرة وفي المعلوم مرة أخرى ، يقال : جرى هذا بعلمي ، أي وأنا عالم به ، ويقال : هذا علم أبي حنيفة وعلم الشافعي أي معلومها.
وأما ما ذكروه في إثبات القدرة لله تعالى فلا يصح ، لما قد تقدم من أن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة غير ممكن.
ثم نقول : قوله تعالى (هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [غافر : ٢١] لا يحوز حمله على ظاهره ، لأن الشدة والصلابة إنما تستعمل في الأجسام والله تعالى ليس بجسم ، فيجب حمله على وجه يوافق دلالة العقل ، فنقول : (هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) المراد به وصف اقتداره وأنه أقدر القادرين.
وبعد فلو صح لكم الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، لصح لنا أيضا فنستدل بقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). ووجه الاستدلال أنه تعالى لو كان ذا علم على ما ذكرتموه ، لوجب أن يكون فوقه من هو أعلم منه ، لأن العليم إنما يستعمل في مبالغة العالم ، وذلك محال ، فليس إلا أنه يستحيل أنه تعالى عالم بعلم ، فيحب أن يكون عالما لذاته قادرا لذاته على ما نقوله.
فصل ، لما بين رحمهالله الكلام فيما يستحقه تعالى من الصفات ، وكيفية استحقاقه لها ، وفرغ من الكلام في ذلك ، تكلم فيما يجب أن ينفي عنه.
نفي الحاجة عن الله
نبدأ من ذلك بكونه غنيا ، لأن الغرض به نفي الحاجة عن القديم تعالى.
وجملة القول في ذلك ، أن الغنى على ضربين : غنى على الإطلاق ، والآخر غنى لا على الإطلاق. أما الغنى على الإطلاق ليس إلا الله تعالى ، وأما الذي ليس كذلك ، فكالواحد منا لأنه لا يستغنى مطلقا وإنما يستغنى بهذا عن ذاك وبشيء عن شيء.