لا يكون الجسم محلا للحوادث وإن لم يكن محدثا
فإن قيل : ما أنكرتم أن الجسم وإن لم يخل من الحوادث ولم ينفك عنها لم يجب أن يكون محدثا مثلها ، بأن يكون قد حدث فيه حادث ، قبله حادث وقبل ذلك الحادث حادث ، إلى ما لا أول له؟ قلنا : هذه مناقضة ظاهرة ، لأن الحادث والمحدث سواء ، والمحدث لا بد له من محدث وفاعل ، والفاعل المحدث يجب أن يكون متقدما على فعله ، وما تقدم غيره لا يجوز أن يكون مما لا أول لوجوده.
وقد أوردت هذه الطريقة على وجه آخر ، فقيل : لو كان الجسم قديما لوجب أن يكون متقدما على هذه المعاني المحدثة ، لأن من حق القديم أن يكون متقدما على ما ليس بقديم ، كما أن من حق ما وجد منذ يومين أن يكون متقدما على ما وجد منذ يوم ، وقد عرفنا أن الجسم لا يكون متقدما على هذه المعاني ، فوجب أن لا يكون قديما ، وإذا لم يكن قديما وجب أن يكون محدثا لأن الموجود يتردد بين هذين الوضعين ، فإذا لم يكن على أحدهما كان على الآخر لا محالة. فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.
الشبه التي تورد في قدم العالم
فصل في الشبه : اعلم أن الشبه التي تورد في قدم العالم وإن كثرت فهى منفصلة غير قادحة ، فإن عرفت الجواب عنها حسن ، وإن لم تعرف لم يقدح في العلم بحدوث الأجسام.
تسلسل الفاعلين محال
فمن ذلك هو أنهم قالوا : لو كان العالم محدثا لاحتاج إلى محدث وفاعل ، وفاعله إذا حصل فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا فلا بد أن هنالك من معنى له ولمكانه صار فاعلا ، كطريقتكم في إثبات الأعراض ، وذلك المعنى إذا كان محدثا يحتاج إلى آخر ، والكلام في محدثه كالكلام فيه ، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له ، وذلك محال.
والأصل في الجواب عن ذلك ، هو أن الفاعل ليس له بكونه فاعلا حال ، بل المرجع به إلى أنه وجد من جهته ما كان قادرا عليه ، وليس يجب إذا وجد من جهته ما كان قادرا عليه أن يكون هنالك معنى حتى يحتاج ذلك المعنى إلى محدث ، ومحدثه إلى معنى آخر ، فيؤدي إلى ما يتناهى. ألا ترى أن أحدنا في الشاهد يحصل فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا ، ولا يجب أن يكون هناك معنى ، كذلك في مسألتنا.