فصل : فإن قيل : فما كمال نعم الله ، قلنا : لا سبيل لنا إلى علم ذلك مفصلا وإنما نعلم على سبيل الجملة أن جميع ما بنا من النعم ؛ أصولها وفروعها ، مبتدؤها ومنشؤها من قبل الله تعالى ومن عنده. ولهذا قال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣]. ولا يمكننا عدها على سبيل التفصيل نعمة فنعمة ، ولذلك قال جل وعز : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [النحل : ١٨] الآية بين أنه لا يمكن عد نعمه أجمع وإحصاؤها.
فإن قيل : إذا لم يمكنكم معرفة نعم الله تعالى بأجمعها فكيف توجبون الشكر عليها؟ قلنا : إنا لا نوجب الشكر عليها مفصلا ، وإنما نقول : إنه يجب شكره على سبيل الجملة.
فإن قيل : كيف يمكنكم شكر نعمه تعالى على سبيل الجملة مع أنه لا يمكن شكره إلا بنعمة متجددة؟ قلنا : إذا كنا شكرناه على سبيل الجملة فقد دخل فيه المستمرة والمتجددة جميعا ولا يلزمنا شيء آخر سواه ، إذ لا يكلف الله تعالى ما ليس في الوسع ولا في الطاقة.
فصل : ثم ذكر رحمهالله بعد هذه الجملة «أنه تعالى خلق هذه المنافع لتتكامل نعمته ، وتظهر حكمته جل وعز ، فيجب على المكلف وقد عرضه الله تعالى بالتكليف إلى الدرجات العظيمة ، أن يبالغ في شكر نعمته ولا يكفرها ، ويتحدث بها ، ويذكرها ، ويجتهد في أداء عباداته التي هي كالشكر له ، ولا يقصر فيها ، وإذا كان لا يمكنه ذلك إلا بمعرفة جل وعز بتوحيده وعدله ، وجب أن لا يقصر في معرفته ويحصلها بما أمكنه تحصيلها لأن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا كوجوبه.
مناقشة حول قول أبي علي بأن معرفة الله تترتب على الشكر
وهذا منه رحمهالله إشارة إلى ما يقوله أبو علي ، من أن وجه وجوب المعرفة وجوب شكر النعمة ، وليس كذلك. لأن شكر نعمة الله تعالى إنما يجب على المكلف ، إذا علم أنه خلف هذه المنافع ، وقصد بها وجه الإحسان ، ولا يعلم ذلك إلا بعد معرفة الله بتوحيده وعدله ، فلا يترتب وجوب معرفته جل وعز على وجوب شكر نعمته والحال هذه. وأشبه ذلك ما نقوله فيمن اجتاز بمصنعة من ماء وشرب منها ، فكما أنه لا يجب عليه معرفة بانيها ليشكر عليها ، بل إنه إن عرف أنه إنما بناها لينفع الناس ، وقصد ببنائها ذلك شكره وإلا فلا شيء عليه ، كذلك في مسألتنا إن عرف الله تعالى ، وعرف