إن إثبات محدث في الغائب ينبني على إثبات محدث في الشاهد ، وأنتم لا تثبتون في الشاهد محدثا ، فكيف أثبتم في الغائب محدثا حتى استدللتم بكلامه واحتججتم به؟
وأيضا فإن صحة السمع تنبني على كون القديم تعالى عدلا حكيما لا يكذب لا يظلم ، وأنتم قد جوزتم على الله ما هو أظهر وأعظم ، فكيف يمكنكم الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، ولأنا لم نعرف هذه المسألة ، لا يمكننا أن نعرف صحة السمع ، وكل مسألة هذا سبيلها فالاستدلال عليها بالسمع متعذر.
ووجه آخر في منعهم عن الاستدلال بهذه الآيات ، أنها لا توافق مذهبهم في هذا الباب. لأن في الآية الأولى أن في الواقعات ما لا يريده الله تعالى ، ألا ترى إلى قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ) [البقرة : ٢٥٣] وهذا ينبئ عما ذكرناه ، وذلك يقدح فيما أصلوه من أنه تعالى مريد لذاته.
وكذلك ففي الآية الثانية لفظ : أن ، وأن إذا دخلت على الفعل المضارع أفدت الاستقبال ، وذلك يوجب أن لا يكون كان القديم تعالى مريدا فيما لم يزل ، فلا بد من تأويل ، فنتأولها على وجه يوافق دلالة العقل ، ونقول : إن المراد بالمشيئة المذكورة في هذه الآيات مشيئة الإلجاء والإكراه ، ولها نظائر في كتاب الله عزوجل ، قوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)) [الشعراء : ٤] وقال أيضا : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)) [يونس : ٩٩] مبينا على أنه لو شاء أن يكرههم على الإيمان ويحملهم على ذلك أمكنه غير أنه أمهلهم ووكلهم إلى اختيارهم ، حتى إن أحسنوا الاختيار بأنفسهم استحقوا من الله الكرامة ، وإن أساءوا الاختيار استحقوا الإهانة ، فيبقى التكليف ولا يبطل الاستحقاق أصلا ورأسا.
الاستدلال بالقرآن على عكس قولهم
ثم بعد هذه الجملة نعارضهم بما في كتاب الله تعالى مما يدل على فساد مذهبهم في هذا الباب ، وهو قوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ) [الأنعام : ١٤٨] وحسبك هي دلالة في هذا الباب. قال تعالى حاكيا عنهم : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الأنعام : ١٤٨] الآية. حكى الله تعالى صريح مذهب هؤلاء القوم عن المشركين ، ثم كذبهم بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وقال بعده (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) والبأس هو