يبين ذلك ويوضحه ، أن الذي يخرج المقدور عن كونه مقدورا وجوه محصورة : منها ما يرجع إلى ما تحتاج إليه القدرة كعدم البنية ، ومنها ما يرجع إلى الفاعل وهو عدم القدرة ، ومنها ما يرجع إلى نفس المقدور وذلك وجوه ستة : وجوده ، أو وجود سببه ، أو حضور وقته ، أو حضور سببه ، أو تقضيه ، أو تقضي وقت سببه. وشيء من هذه الوجوه غير حاصل في مسألتنا ، فيجب أن لا تتغير قدرة القديم تعالى على ذلك يكذب المدعي وصدقه.
ثم يقال لهم : هب أنه تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، أو ليس أنه تعالى قادر على أن يجعله كسبا لهذا المدعي فيلزم منه ما فررتم منه.
ومنهم من قال : إنما لم يجز ذلك لأن المعجز موضوع للتصديق.
وجوابنا أنا لا نسلم ذلك ، بل المعجز إنما يدل على صدق من ظهر عليه بشرط أن يكون المظهر له عدلا حكيما ، فأما إذا لم يكن عدلا حكيما فلا. وقد أضفتم إلى الله تعالى سائر القبائح فكيف يمكنك القول بذلك؟.
ثم يقال لهم : وما دليلكم على أن المعجز دلالة التصديق؟ فإن قالوا : لأن الله تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم الضروري بصدق المدعي فيجب أن يكون قادرا على أن يعرفنا صدقه استدلالا ، قلنا : ولم وجب ذلك؟ فإن قالوا : لأنه تعالى لما قدر على أن يعرفنا ذاته اضطرارا قدر على أن يعرفناه استدلالا. قلنا ، ولم جمعتم بين الأمرين ، وهل هذا إلا جمع الأمرين من غير علة جامعة؟ ثم يقال لهم : أليس أنه تعالى قدر على أن يعرفنا وجود أنفسنا اضطرارا ولم يقدر على أن يعرفناه استدلالا ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ فإن قالوا : إن كلامنا في الغير ، قلنا : هذا قرار بمجرد دفع الالتزام ، وما هذا سبيله من الاحترازات فإنها مما لا يقبل ، وصار الحال فيه كالحال في ما إذا قلنا للمجسمة لو كان القديم تعالى جسما لوجب أن يكون محدثا ، فتقول المجسمة إنما يجب أن يكون محدثا إذا كان الكلام في الشاهد فأما في الغائب فلا ، فكما أنّا نقول لهم هذا احتزاز لمجرد دفع الإلزام فلا يقبل ، كذلك في مسألتنا.
وبعد ، فإنه تعالى قادر على أن يعرفنا الألم اضطرارا ولم يقدر على أن يعرفنا به استدلالا ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ فلا يجدون له جوابا.
فصل في خلق الأفعال
والغرض به ، الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها.