الخوف دعاء الدعاة وقصص القاصين وتخويف المخوفين ، وربما يكون ذلك بخاطر من جهة الله تعالى أو من جهة بعض الملائكة ، وربما يعتريه الخوف بأن ينظر في كتاب فيرى هناك مكتوبا : لا يأمن أن يكون لك صانع صنعك ، ومدبر دبرك ، إن أطعته أثابك ، وإن عصيته عاقبك. فعند هذه الأسباب أو عند بعضها لا بدّ من أن يخاف من ترك النظر ضررا ، حتى لو لم يخف البتة لم يكن مكلفا ولا عاقلا ؛ إذ العاقل إذا خوف بأمارة صحيحة خاف لا محالة. وقد تقرر في العقل أن دفع الضرر عن النفس واجب سواء كان معلوما أو مظنونا ، وسواء كان معتادا أو غير معتاد ، إذا كان المدفوع به دون المدفوع. فثبت وجوب النظر في طريق معرفة الله تعالى.
فإن قيل : ما أنكرتم أن ضرر النظر أكبر من الضرر الذي يندفع به؟ قلنا : لأن الضرر الذي يندفع بالنظر هو ضرر العقاب ولا شبهة في أن ضرر النظر دونه.
هل يدفع الضرر بالتقليد أو الاضطرار أو المشاهدة؟
ومتى قيل : إن ذلك الضرر يمكن دفعه عن النفس بالتقليد أو بأن يعرف الله تعالى اضطرارا أو مشاهدة فلا يحتاج إلى النظر والاستدلال ، قلنا : قد تكلمنا على هاتين المسألتين وبينا فساد التقليد وأنه تعالى لا يجوز أن يعرف اضطرارا ولا بالمشاهدة.
ومتى قيل : إن ذلك الضرر مظنون فلا يجب دفعه ، قلنا : لا فرق بين أن يكون الضرر مظنونا أو معلوما في وجوب دفعه ، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يشاهد في الطريق سبعا ، وبين أن يخبر مخبر بذلك ، فإنه يلزمه للتجنب عن سلوك تلك الطريق فعلى هذا يجري الكلام في ذلك.
الربط بين الكلام في أن النظر أول الواجبات وبين وجوب النظر
فصل : ثم إنه رحمهالله عطف على الجملة المتقدمة الغرض المقصود بالباب وهو الكلام في أن النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات ، ورتبه على الفصل الذي قبله لما كان ذلك كلام في وجوب النظر ، وهذا كلام في أنه أول الواجبات.
ودل على ذلك بأنه قال : سائر الشرائع من قول وفعل لا تحسن إلا بعد معرفة الله تعالى ، ومعرفة الله لا تحصل إلا بالنظر فيجب أن يكون النظر أول الواجبات.
ونحن قبل إيراد الدلالة على ذلك نبين المراد بهذه العبارة فإن إطلاقها يوهم أنه لا يجوز أن يكون في الواجبات ما يجب على المرء حال توجه التكليف عليه كالنظر ،