شبه البغداديين :
وأما شبه البغداديين في هذا الباب فهو أن قالوا : إن العقاب لطف من جهة الله تعالى ، واللطف يجب أن يكون مفعولا بالمكلف على أبلغ الوجوه ، ولن يكون كذلك إلا والعقاب واجب على الله تعالى ، فمعلوم أن المكلف متى علم أنه يفعل به ما يستحقه من العقوبة على كل وجه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر.
وربما يؤكدون ذلك بقولهم : إن العقاب إذا كان لطفا للمكلف فلا بد من أن يعرفه الله تعالى أنه يفعله به ، وإلا كان مخلا بما وجب عليه.
والأصل في الجواب عن ذلك ، هو أن يقال لهم : إن اللطف يجب أن يفعل بالمكلف على أبلغ الوجوه على ما ذكرتموه ، ولكن إذا كان ممكنا ، وهاهنا لا يمكن ، لأنه لا حالة إلا والفاسق يجوز أن يتوب إلى الله تعالى ، ويندم على ما أتى به ويقلع عنه ، فكيف يمكن تعريفه أنه يفعل به العقوبة لا محالة. لو لا صحة هذه الجملة ، وإلا كان يجب أن يعرف أن توبته لا تقبل إذا أقدم على الكبيرة وإن بالغ في الإنابة وبذل الجهد في تلافي ما وقع منه ، فمعلوم أن هذا في باب اللطف أقوى ، ومتى قيل : إن ذلك غير ممكن فلا يجوز ، قلنا : فهلا رضيتم منا بمثله.
وبعد ، فإن اللطف هو ما ثبت له حظ الدعاء والصرف ، ولاحظ للعقاب في ذلك ، وإنما الذي يثبت له هذا الحظ هو العلم باستحقاق العقاب ، فكيف يصح ما ادعوه.
فصل
استحقاق الفاسق للعقوبة :
وقد ذكر رحمهالله بعد هذه الجملة أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ، وعطف على ذلك القول في أنه يستحق العقوبة.
والترتيب الصحيح في ذلك ، هو أن نذكر أولا أنه يستحق العقوبة ، ثم ترتب عليه الكلام في أنه يفعل به ما يستحقه.
والذي يدل على أن الفاسق يستحق العقوبة قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] الآية ، ووجه الاستدلال به ، هو أنه تعالى أمر بقطع يد السارق عند حصول الشرائط المعتبرة في هذا الباب عن طريق الجزاء والنكال ، فيجب