ولنا في الجواب عن ذلك طريقان :
إحداهما : طريقة جدلية ، وهي أن نقول : إن ما ذكرتموه من النفع غير ما استدللنا به وبمعزل عما أوردناه ، فلا يلزمنا الجواب عن طريق الجدل.
والثانية : طريقة علمية ، وهي أن نقول تبرعا ، إن أحدنا كما يختار الحسن لما ذكرتموه من النفع ودفع الضرر ، فقد يختاره لحسنه ولكونه إحسانا. والذي يدل على ذلك وجوه : منها ما ذكره شيخنا أبو هاشم ، وهو أن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر ، فإنه يختار الصدق على الكذب ، لا ذلك إلا لحسنه وكونه إحسانا ، وإلا فالنفع فيهما سواء. ومنها ما ذكره شيخنا أبو الهذيل ، واستدل به أبو إسحاق بن عياش ، وغيره من مشايخنا ، وهو قولهم قد ثبت أن الله تعالى فاعل للحسن وعالم به ، فلا يخلو ، إما أن يفعله لاحتياجه إليه وذلك مستحيل عليه ، أو يفعله لحسنه وكونه إحسانا على ما نقوله. وهذا لأن العالم لما يفعله لا يفعل إلا لهذين الوجهين ، فإذا بطل أحد الوجهين نفي الآخر.
الحسن للحسن لا للمنفعة :
وقد ذكر قاضي القضاة أن أحدنا لو لم يفعل الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة لوجب أن لا يوجد في عالم الله تعالى منعم على غيره ، لأن المنعم إنما يكون منعما إذا قصد بالمنفعة وجه الإحسان إلى الغير ، حتى لو لم يكن كذلك لم يكن منعما. وعلى هذا فإن البزاز إذا قدم الثياب الفاخرة إلى المشترين ليأخذ في مقابلها الذهب فإنه لا يكون منعما عليه لما كان غرضه به نفع نفسه لا نفع المشتري ، وقد قيل : إن كل عاقل يستحسن بكمال عقله إرشاد الضال ، وأن يقول للأعمى وقد أشرف على بئر يكاد يتردى فيه : يمنة أو يسرة لا ذاك إلا لحسنه وكونه إحسانا فقط.
فإن قيل : ما أنكرتم أنه إنما يفعله رجل للثواب ، أو طلبا للمدح ، أو هربا من النوم؟ قيل له : إنا نفرض الكلام في رجل قاسي القلب ، جافي الفؤاد لا يبالي بهلاك الثقلين ، ولا يحتفل بالمدح والذم ، ملحد زنديق ، لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولا يقر بالثواب والعقاب ، ومعلوم أنه والحال هذه يستحسن بكمال عقله إرشاد الضال وأن يقول للأعمى والحال ما ذكرناه : يمينة أو يسرة ، ولا وجه لذلك إلا حسنه وكونه إحسانا.
وقد سلك شيخنا أبو عبد الله البصري طريقة أخرى ، وهي أن كل عاقل ،