كل واحد منهما بحكمه ويقر في موضعه ، فلا يقاس أحدهما على الآخر.
يبين ذلك ويوضحه ، أنه قد تقرر في عقل كل عاقل أن من تجنب سلوك طريق لأنها مسبعة لا بد من أن يترك سلوك كل طريق هذه سبيلها وإلا علم أنه لم يترك هذه الطريق لهذه العلة ، وكذلك من لم يتناول بعض الأطعمة لأنه مسموم لا بد من أن يترك كل طعام فيه سم ، وإلا آذن بأنه لم يترك تناول الطعام الأول لهذا الوجه.
وكما أن هذا مقرر في العقول فكذلك فقد تقرر في عقل كل عاقل أن من تفضل على غيره بدرهم لأنه حسن لم يجب أن يتفضل عليه بجميع دراهمه لثبات هذا الوجه وهذه الطريقة فيه ، ولا إشكال في ذلك وإنما الكلام في علته.
فالذي يذكره أبو هاشم في علة ذلك ، أن الفعل مشقة ، فليس يجب إذا فعل فعلا لوجه أن يفعل كل ما شاركه في ذلك الوجه للمشقة ، وليس كذلك الترك فلا مشقه فيه ، لذلك افترق الحال في الفعل والترك ، وذلك مما لا يصح ، فإن المشقة غير حاصلة في حق القديم تعالى ، ثم إنه ليس يجب إذا تفضل نوعا من التفضل لجنسه ولكونه إحسانا يتفضل بسائر أنواع التفضل.
فإن قيل : فما العلة الصحيحة في ذلك إذا ، فقد أفسدتم كلام أبي هاشم؟ قلنا : الحكم معلوم ، فإن أمكن أن يطلب له علة صحيحة فذاك ، وإلا لم يقدح في صحة الحكم ، ويكون من الأحكام التي لا يمكن أن تعلل لأنه بأي شيء علل فسد.
وأما أبو علي فقد احتج لمذهبه بوجوه ، من جملتها : أن الذي نقوله يقتضي أن لا تصح توبة أحدنا عن القبيح إلا إذا تاب عن الواجب أو الحسن أيضا ، وذلك خلف. قال : وبيان ذلك ، أن من ارتكب كبيرة وأراد أن يتوب عنها وعنده أن اعتقاد نبوة نبينا مثلا قبيح ، فإنه لا تصح توبته عن تلك الكبيرة إلا إذا تاب عن هذا الاعتقاد الذي هو واجب ، وذلك فاحش من الكلام. والجواب أن هذا الالزام إما أن يكون من جهة الداعي ، أو من حيث التكليف فإن كان من حيث الداعي فملتزم ، والدليل عليه الأمثلة المتقدمة. وإن كان من حيث التكليف ، فليس يلزم لأنه يصح توبة هذا الذي ذكرته على وجه لا يكو تائبا عن هذا الاعتقاد ، وذلك بأن يتوب عن القبائح جملة فلا يدخل هذا الاعتقاد تحته ، أو يتوب عن الكبيرة ولا يتعرض لهذا الاعتقاد أصلا ، أو يتوب عما يعلم قبحه وقطع عليه ولا يتعرض لما لا يمكنه القطع على قبحه ، وإذا أمكنه أن يتوب على الكبيرة على هذه الوجوه ، كيف يصح ما ادعاه أبو علي علينا؟