ودلالة على أخرى وهو المعتمد في هذا الباب ، وتحريره أن العقاب كالذم يثبتان في الاستحقاق معا ويزولان معا ، حتى لا يجوز أن يثبت أحدهما مع سقوط الآخر ، ومعلوم أن الذم يستحق على طريقة الدوام فكذلك كان يجب مثله في العقاب.
فإن قيل : ولم قلتم إن الذم والعقاب يثبتان معا ، يزولان معا ، حتى لا يجوز أن يثبت أحدهما ويسقط الآخر.
قيل له : لأن المثبت لأحدهما هو المثبت للآخر ، والمسقط لأحدهما هو المسقط للآخر ، ألا ترى أن المثبت للذم والمؤثر في استحقاقه إنما هو الإقدام على المعاصي والإخلال بالواجبات ، وهذا بعينه هو المثبت للعقاب ، وهكذا فإن المسقط للذم إنما هو التوبة أو طاعة هي أعظم من المعصية ، وهذا هو المسقط للعقاب ، فصح أن المؤثر في استحقاقهما واحد ، وإذا كان كذلك وجب إذا استحق أحدهما على طريق الدوام ، وجب أن يستحق الآخر أيضا على سبيل الدوام ، لأنه لا يجوز في شيئين استحقا على وجه واحد ، وكان المؤثر في إثبات أحدهما وإسقاطه هو المؤثر في الآخر ، وإسقاطه أنه يستحق أحدهما دائما والآخر منقطعا ، بل لا بد أن يستحقا منقطعين أو دائمين. فأما أن يستحق أحدهما دائما والآخر منقطعا فمحال ، إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن الذم يستحق دائما فكذلك العقاب.
فإن قيل : ومن أين أن الذم يستحق دائما؟ قيل له : إن ذلك مما لا يقع في إشكال ، فمعلوم أن من لطم والده كان مصرا عليه يحسن منه ومن غيره أن يذمه على ذلك الصنيع دائما ، حتى لو قدر أن يميته الله تعالى ثم أحياه لكان يحسن من الوالد ذمه على صنيعه به ، وكذلك يحسن من العقلاء أن يذموه به.
فإن قيل : كيف يصح قولكم إن العقاب يتبع الذم ، وأنهما يثبتان معا ويزولان معا ، ومعلوم أن القديم لو أقدم على قبيح لا يستحق الذم تعالى عن ذلك ، ولا يستحق العقوبة. وجوابنا عن ذلك ، أنا لم ندع أنهما يثبتان معا ويزولان معا على كل وجه ، وأن أحدهما لا ينفصل عن الآخر بحال ، وإنما قلنا : إنهما إن ثبتا واستحقا جميعا ثبتا معا وزالا معا ، فإن الذي يؤثر في استحقاق أحدهما هو المؤثر في استحقاق الآخر ، وما أثر في إسقاط أحدهما هو المؤثر في إسقاط الآخر ، وما هذا حاله فلا بد من أن يكون مستحقا على وجه واحد ، فإما أن يستحقا منقطعين أو دائمين ، وأما أن يكون أحدهما على سبيل الدوام والآخر على سبيل الانقطاع فلا.