فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين ، وعطف عليه الكلام في أنه يستحق العقاب على طريق الدوام ، وكان الترتيب الصحيح في ذلك هو أن يذكر أولا أن الفاسق يستحق العقوبة على طريقة الدوام ثم يرتب على ذلك الكلام في أنه يعذب بالنار أبدا ، غير أنا نسلك طريقته ونجري على منهاجه ، فنبدأ بما بدأ به.
والذي يدل على أن الفاسق يخلد في النار ويعذب فيها أبدا ما ذكرناه من عمومات الوعيد ، فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ، تدل على أنه يخلد ، إذ ما من آية من هذه الآيات التي مرت ، إلا وفيها ذكر الخلود والتأبيد أو ما يجري مجراهما.
وهنا طريقة أخرى مركبة من السمع وتحريرها هو أن العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين : إما أن يعفى عنه ، أو لا يعفى عنه ، فإن لم يعف عنه فقد بقي في النار خالدا ، وهو الذي نقوله ، وإن عفي عنه فلا يخلو إما أن يدخل الجنة أولا ، فإن لم يدخل الجنة لم يصح لأنه لا دار بين الجنة والنار ، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة. وإذا دخل الجنة فلا يخلو ، إما أن يدخلها مثابا أو متفضلا عليه ، لا يجوز أن يدخل الجنة متفضلا عليه لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلا بد من أن يكون حاله متميزا عن حال الولدان المخلدين وعن حال الأطفال والمجانين ، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثابا لأنه غير مستحق ، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح.
فإن قيل : ومن أين أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح؟
قلنا : لأن الثواب إنما يستحق على طريقة التعظيم والإجلال ، وما هذا سبيله لا يحسن دون الاستحقاق ، ولهذا فإنه لا يحسن من الواحد منا أن يعظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والده ، وأن يعظم والده على الحد الذي يعظم به النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأن يعظم النبي على الحد الذي يعظم ربّ العزة.
فهذا هو الكلام في أن الفاسق يعذب بالنار أبد الآبدين.
وأما الكلام في أن العقاب يستحق على طريقة الدوام ، فهو أنه لو لم يستحق على طريقة الدوام لكان لا يحسن من الله تعالى أن يعذب الفساق بالنار ويخلدهم فيها ، وقد دللنا على أن الفاسق يعذبه الله تعالى أبد الآبدين ، فدل على أن استحقاق العقاب على طريقة الدوام.