في مثاله قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وله نظائر أخر في القرآن ومنه قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)) بعد قوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) فإحدى الجملتين عامة شاملة للمالكات البالغات وغيرهن ، والأخرى خاصة بالبالغات المالكات لأمر أنفسهن ، إذ العفو لا يصح إلا منهن ، ولم يمنع عموم إحداهما من خصوص الأخرى ، فكذلك الحال هاهنا.
فإن قيل : لا ظاهر لهذه الآية ، لأن في الآية لفظة إن ، وهي لتحقيق الحال ، ولذلك يدخل في خبره اللام فيقتضي أن يكون المرء معاقبا في الحال ، وخلافه معلوم ، فليس إلا أن يعدل عن الظاهر ، فإذا عدلتم عن الظاهر وأخذتم في التأويل فلستم بأولى منا فنحمله على الاستحقاق.
وجوابنا عن ذلك ، ليس الأمر على ما ظننتموه ، لأن «إن» كما يرد يرد لتحقيق الحال فقد يرد لتحقيق الخبر في المستقبل. بل الخبر في المستقبل إلى التحقيق أحوج إليه منه في الحال ، وعلى هذا قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أورد في الكلام لفظة «إن» وأدخل اللام في خبره ، ولم يقصد به إلا تحقيق الحكم في المستقبل.
وبعد ، فإن في الآية لفظة الخلود ، والخلود لا يتأتى إلا في المستقبل ، فكيف يقال إن ظاهر الآية يوجب أن يكون المجرم معذبا في الحال؟ وبعد ، فإن أكبر ما فيه أن حمله على ظاهره لا يمكن ، أو ليس لا بد من أن يحمل على المجاز الأقرب دون الأبعد ، فقد بينا أنه لا يجوز حمل خطاب الله تعالى على المجاز الأبعد مع إمكان حمله على المجاز الأقرب ، وأن حال المجاز الأبعد مع المجاز الأقرب كحال المجاز مع الحقيقة ، فكما أنه لا يحمل كلام الله تعالى على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة ، كذلك هنا. وإذا كان هذا هكذا ، ومعلوم أن حمله على أن يعذب في مستقبل الأوقات حمل له على المجاز الأقرب ، وليس كذلك الحال في ما إذا حمل على الاستحقاق.
ومما يمكن الاستدلال به من عمومات الوعيد في كتاب الله تعالى كثير ، فإنه يمكن أن يستدل بقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الآية ، ويمكن الاستدلال بقوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ويمكن أن يستدل بقوله تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)) الآية ، وفي ذلك كثرة على ما ذكرناه.