فمن جملة ما يمكن الاستدلال به على ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [النساء : ١٤] فالله تعالى أخبر أن العصاة يعذبون بالنار ويخلدون فيها ، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعا فيجب حمله عليهما ، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه ، فلما لم يبينه دل على ما ذكرناه.
فإن قيل : إنما أراد الله تعالى بالآية الكافر دون الفاسق ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) وذلك لا يتصور إلا في الكفرة ، وإلا فالفاسق لا يتعدى حدود الله تعالى أجمع.
قيل له : الخطاب شامل لهما جميعا على ما ذكرناه ، فمن حصر فعليه الدليل.
ثم نقول : هذا الذي ذكرتموه باطل لأنه تعالى قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) إلى قوله : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ومن طلق امرأته لغير العدة وأخرجها من بيتها لا يكون متعديا جميع الحدود ، وعلى أن الآية بالاتفاق في وعيد الفساق من أهل الصلاة ، فقد وردت في قصة المواريث ، ولئن اشتبه الحال في هل يجب قصر الخطاب على سببه أم لا يجب ذلك ، فلا شبهة في أن حمله على سببه واجب لا محالة ، وأما قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ) فذلك اسم جمع مضاف ، وقد ذهب أبو هاشم إلى أنه يحمل على الثلاثة ، فعلى هذا لا كلام في أن الفاسق كالكافر في أنه ربما يتعدى ثلاثة بل أربعة من حدود الله تعالى.
وأما أبو علي ، فإنه وإن كان يحمل ما هذا سبيله على العموم والاستغراق إلا أن في هذا الموضع يقول : لو حملته على الاستغراق لخرج الكلام عن الفائدة البتة ، لأنه لا يوجد في الكفار من تعدى على حدود الله أجمع ، فلا يمكن حمله والحال هذه لا على الكفار ولا على الفساق فحملته على الثلاثة للعرف الحاصل فيه ، فالمتعارف من حال الأمة أنهم يجرون هذا الاسم على الفاسق فيقولون : قد تعدى من حدود الله تعالى وجاز الرسم ، فيسقط هذا السؤال أصلا ، وعلى أن قوله تعالى في سورة الجن : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] ليس فيه ذكر التعدي لحدود الله ، فهلا دل على ما قلناه؟
فإن قيل : الآية لا تدل على ذلك ، لأنه ورد في شأن الكفار ، ولهذا قال بعده : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)) [مريم : ٧٥] ولا هذا يكون إلا مع الكفار.