قيل له : إن القرآن لا يختص بذكر القصص دون ما سواها بل كان مشتملا على كثير من أنواع الكلام ، فلو كانت المعارضة ممكنة لهم لأتوا بسائر أنواع الكلام وجعلوها معارضة للقرآن ، ولم يأخذهم في الأول باعتقاد تلك الأقاصيص وأنها كانت كما ذكر ، بل ورضى من جهتهم بأن يضعوا من عندهم قصصا ويكسونها من العبارات الجيدة العظيمة الجزلة ما يقارب القرآن في الفصاحة ويدانيه ، وليلتبس الحال فيه ، فلا معنى لما ذكرتموه.
وأيضا ، فلا إشكال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتحدى اليهود بذلك ، وفيهم العلماء بالأخبار والعارفون بالأقاصيص ، حتى أن كل قصة مجهولة تقص في عالم الله تعالى تنسب إليهم وتؤخذ منهم.
وبعد ، فإن العرب قد بعثوا إلى الفرس يطلبون منهم القصص ، نحو قصة رستم واسفنديل ، وجمعوا من ذلك شيئا كثيرا ، ثم عجزوا في الآخرة أن يجعلوه معارضة القرآن ، فصح سقوط ما أوردوه.
فإن قيل : أكبر ما في هذه الجملة التي أوردتموها ، أن القرآن قد بلغ في الفصاحة حدا لا يتمكن العرب من معارضته ، وذلك لا يوجب كونه معجزا دالا على نبوته ، فإن من الجائز والحال ما ذكرتموه أن يكون القرآن من جهته صلىاللهعليهوسلم لتقدم له في معرفة الفصاحة ، ولهذا قال : «أنا أفصح العرب». وما الحال فيما أتى به صلىاللهعليهوسلم ، كالحال فيما يأتي به بعض من تميز في صناعة من الصناعات ، فكما أنه لا يستحق بهذا القدر النبوة ولا يدل على أنه مبعوث من جهة الله جل وعز ، فكذلك الحال فيما نحن فيه.
قيل له : ليس الأمر على ما ظننته ، فإنه يستحيل فيمن نشأ بين جماعة يتعاطون البلاغة ويتباهون بالفصاحة أن يتعلمها ويأخذها منهم ، ثم يبلغ فيها حدا لا يوجد في كلام واحد منهم بل في كلام جماعته فصل يساوي كلامه في الفصاحة ، أو يدانيه أو يقرب منه أو يشتبه الحال فيه ، وهذا الحال حال القرآن مع سائر كلامهم ، فلا بد من أن تكون قد انتقضت فيه عاداتهم ، ولن يكون كذلك إلا ويتضمن الدلالة على صدق من ظهر عليه ، سواء كان من جهة الله تعالى أو من جهته على ما مضى ، وقد ذكرنا أنه ليس من قضية المعجزات أن تكون من جهة الله تعالى على كل حال ، وهكذا الحال في سائر الصناعات عندنا ، فلو نشأ غلام فيما بين جماعة من الصناع وتعلم منهم الصناعة ، ثم بلغ في العلم بالصناعة مبلغا لا يوجد في أعمالهم عمل يساوي عمله ولا يقاربه ولا يدانيه ، ثم ادعى هو لأجله النبوة ، فإنه لا بد من أن يصدق ، لمكان ما آتاه الله تعالى