العدم عليها. ونحن وإن لم يمكننا أن نعلم بهذه الطريقة أن الساهي محدث ، فإن ذلك يمكن بطريق أخرى. على أن في هذه الدلالة ما هو احتزاز عن الساهي ، لأنا قلنا هذه التصرفات تقع بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما مقدرا ، ومعلوم أن تصرفات الساهي وإن لم تقع بحسب قصده محققا ، فقد تقع بحسب قصده مقدرا ، لأنا لو قدرنا أن للساهي قصدا ، لكان لا بد في تصرفه من أن يكون واقعا بحسب قصده. ثم الذي يدل على أنه محدث كالعالم ، هو ما قد ثبت أن فعله يقع بحسب قدرة يقل بقلتها ويكثر بكثرتها ، وعلى هذا لو كان في منتهى رجله كوز يمكنه أن يحركه ، ولو كان بدل الكوز حجر عظيم لم يمكنه نقله ولا تحريكه.
وأيضا فمعلوم أن النائم وهو بالري مثلا يعتقد أنه ببغداد ، وهذا الاعتقاد جهل قبيح فلا يخلو ، إما أن يكون من قبل الله تعالى ، أو من قبل غيره. لا يجوز أن يكون من جهة الله تعالى لأنه قبيح ، والله تعالى لا يقبل القبيح ، ولا يجوز أن يكون من جهة غيره ، لأن الغير إنما يعدي الفعل عن محل القدرة بالاعتماد ، والاعتماد لا حظ له في توليد الاعتقاد ، فليس إلا أن يكون من جهته على ما قلناه.
فإن قيل : قد بينتم أن هذه التصرفات متعلقة بنا ومحتاجة إلينا ، فبينوا أن جهة الحاجة إنما هو الحدوث ليتم لكم ما ذكرتموه ، قلنا : الذي يدل عليه أن الذي يقف كونه على أحوالنا نفيا وإثباتا إنما هو الحدوث ، فيجب أن تكون جهة الحاجة إنما هو الحدوث على ما ذكرناه.
وبعد فإن حاجتها إلينا لا تخلو ، إما أن تكون لاستمرار القدم أو لاستمرار الوجود ، أو لتجدد الوجود. لا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لاستمرار العدم ، لأنها كانت مستمرة العدم وإن لم تكن ، ولا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لاستمرار الوجود ، لأنا نخرج عن كوننا قادرين وهي مستمرة الوجود ، فلم يبق إلا أن تكون محتاجة إلينا لتجدد الوجود على ما نقوله.
فإن قيل : لم لا يجوز أن تكون محتاجة إلينا ومتعلقة بنا من جهة الكسب؟ قلنا : إن الكسب غير معقول ، وما لا يعقل لا يجوز أن يجعل جهة الحاجة.
وبعد ، فإن الذي دلكم على أن هذه التصرفات متعلقة بنا من جهة الكسب ، ليس إلا وجوب وقوعها بحسب قصدنا ودواعينا ، ووجوب انتفائها بحسب كراهتنا وصارفنا ،