فإن قيل : جوزوا قبل النظر في الدلالة على إثبات الصانع : أن يكون في الغائب محدث يحدث هذه التصرفات فيكم عند قصودكم ودواعيكم لمجرى العادة. قيل له ، إن ذلك تجويز لما لا يعقل ، إذ المعقول من المحدث هو من يقع الفعل منه بحسب قصده ودواعيه وينتفي بحسب كراهته وصارفه ، وعندهم أن هذا المعنى يثبت في أحدنا ولا يكون محدثا ، وإذا كان ذلك كذلك فقد أخرجوه عن كونه معقولا فكيف يجوزوه في الغائب. وعلى أنا إذا علمنا بالدليل أن أحدنا محدث لتصرفاته نقول : من قال : جوزوا أن يكون في الغائب محدث أحدثها فيكم لا إنكم أنتم المحدثون لها ، يجري مجرى أن يقال : جوزوا خلاف ما علمتموه ، وذلك خلف من القول.
وبعد ، فلو كان حدوث هذه التصرفات عند قصودنا ودواعينا بمجرى العادة لوجب صحة أن يختلف الحال فيه ، كما في الحر والبرد ، فإنه لما كان طريقة العادة اختلف بحسب البلدان ، وهكذا سائر ما طريقة العادة ، نحو الإحراق وما يجري مجراه. وعلى هذا يقال في الحيوانات ، إن في الحيوانات حيوانا يقال له السمندل ، يدخل النار ويتمرغ فيها فلا تؤذيه ولا يحترق بها ، وحتى أنه يتخذ من وبره منديل غمر ، فكلما توسخ يلقى في النار فيعود أنظف ما يكون ويمكن. وهكذا فإنه يقال أن بكرمان خشبة لا تحترقها النار ، كذلك في مسألتنا ، لو كان حدوث هذه التصرفات عند قصودنا بمجرى العادة لجاز أن يختلف الحال فيها حتى يصدق قول من قال : إنه شاهد في بعض البلاد الغائبة عنا من كان يقع منه فعله عند صارفه ، وينتفي عند داعيه ، ويمكنه نقل الثقيل من الأجسام وهو ضعيف ، ولا يمكنه نقل الخفيف منها إذا عاد إلى قوته ، ويتأتى منه الكتابة البديعة ولما تعلمها ولا علمها ، فلما تعلمها لم يتأت منه ذلك ، ومن صدق هذا المخبر فهو متجاهل أو غير عاقل.
فإن قيل : قولكم إن أحدنا محدث لتصرفه لأن تصرفه يقع بحسب قصده وداعيه باطل بالساهي ، فإنه محدث وإن لم تقع تصرفاته بسحب قصده ودواعيه.
وجوابنا ، أن هذا الذي أوردتموه عكس الدلالة ، والأدلة لا يعتبر فيها العكس ، وإنما يعتبر فيها الطرد والمنافضة ، وذلك هو أن يرينا شيئا وقع بحسب قصودنا ودواعينا ثم لم يتعلق بنا تعلق العقل بفاعله ، فإما أن يرينا محدثا لم يقع فعله بحسب داعيه ، فإن هذا عكس ما دللنا به في المسألة ، وذلك لا يقدح في كلامنا ، لأنه لا يمتنع في حكمين مثلين أن يكونا معلومين مختلفين. وعلى هذا نعرف حدوث الأجسام بدلالة ، وهو استحالة انفكاكها عن الحوادث ، وحدوث الأعراض بدلالة أخرى وهو جواز