وكذلك فإنكم تذمون أحدنا على الإماتة والغرق والحرق وغير ذلك مع أن شيئا من ذلك لا يتعلق به.
قلنا : أما الأول فليس على ما تظنونه ، لأنا لا نحمد الله تعالى على الإيمان نفسه ، وإنما نحمده على مقدماته من الإقدار. والتمكين وإزاحة العلة بأنواع الألطاف ، وذلك وذلك موجود من قبل ومتعلق به فلا يلزم ، ولهذا قال بعض أصحابنا حين أورد بعضهم هذا السؤال عليه بحضرة بعض الأكابر فقال : فإنا لا نحمد الله تعالى على ذلك وإنما الله يحمدنا عليه ، فانقطع السائل. فقال المسئول : شنعت المسألة فسهلت.
وأما ما ذكرته ثانيا فليس كذلك أيضا ، لأنا لا نذم أحدنا على الإماتة والغرق والحرق ، وإنما ذممناه على مقدمات ذلك : ألا ترى أن من وضع صبيا تحت برد ليموت فإن ذمنا إياه ليس على الإماتة وإنما هو على إلقائه أو وضعه تحت البرد ، وكذلك من ألقى صبيا في تنور ليحرقه الله تعالى ، فإنا لا نذمه على الإحراق الموجود من قبل الله تعالى ، وإنما نذمه على تقريبه من جهة النار وإلقائه فيها؟ نفسد ما ظننته ، وصح الاستدلال بهذه الطريقة.
فإن قال : ما أنكرتم أن الفصل بين الإحسان والإساءة ، وبين حسن الوجه وقبيحه ، راجع إلى أن أحدهما متعلق بنا من جهة الكسب بخلاف الآخر ، لا إلى ما قلتموه؟ قيل له : إن مذهبكم في الكسب لا يعقل ، ولو عقل فإنه متعلق بالله تعالى فلا يبقى للفعل جهة تضاف إلينا ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ فصح أن على هذا المذهب لا يتصور استحقاق المدح والذم ، ويلزم أن يكون الظلم والكذب وغيرهما من الأفعال ، كطول القامة وقصرها في أنه لا يصح استحقاق المدح والذم عليها البتة ، وذلك يوجب قبح بعثة الأنبياء وبطلان الشرائع أصلا.
وكما يلزم القوم على هذا المذهب أن لا يفرق بين المحسن والمسيء ، وأن يرتفع المدح والذم والثواب والعقاب ، ويلزمهم قبح بعثة الأنبياء ، ويلزمهم أيضا أن يكون هو فاعل القبائح ، لأنه إذا كان خالقا لأفعال العباد وفيها القبائح لزم ما ذكرناه ، وذلك يوجب أن لا تقع لهم ثقة البتة بكتاب الله تعالى ، وأن يجوزوا أن يبعث إليهم رسولا كاذبا ويظهر المعجز عليه ، ليضلهم عن سواء السبيل ، ويدعوهم إلى الكفر ، ويصرفهم عن الإسلام ، لأنه إذا جاز أن يفعل بعض القبائح جاز أن يفعل سائرها ، إذ لا فرق بين بعضها وبين البعض في القبح.